تطبيق الدين أن تخالف هواك، سئل الإمام أحمد: ما هي المروءة؟ قال: ترك ما ترجو لما تخشى.
وما بلغ الله الصادقين منازلهم إلا بمخالفة الهوى؛ موسى عليه السلام لما سقى للجاريتين (بنتي الرجل الصالح) كان فيه حياء، والدليل على حيائه ما حكاه الله عن البنت إذ قالت:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص:٢٦] القوة رأته رفع الصخرة، التي لا يرفعها إلا عشرة، والأمين ما نظر إليها، وقد ذكر أهل التفسير أنه مشى أمامها وقال: دليني على البيت برمي الحصى، فبلَّغه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تلك المنزلة العظيمة بهذه الأعمال الصالحة، فلعل الله نظر إلى قلوب العباد في عصر موسى فوجد قلب موسى من أحسن القلوب فاختاره للرسالة.
وذكر صاحب طبقات الحنابلة قال: وقعت لـ ابن عقيل، وقيل: لغيره، والصحيح لغيره، قال هذا الرجل الصالح: حججت مرة من المرات فلما طفت وسعيت وقضيت حجي بحثت عن مال لي فلم أجد درهماً ولا ديناراً، وذهبت أبحث عمن يقرضني مالاً فما وجدت، قال: فذهبت على وجهي في جوع لا يعلمه إلا الله، وبينما أنا في سكك مكة أنزل سكة وأصعد سكة أخرى، وأنزل مكاناً وأصعد مكاناً، قال: فمكثت في ناحية الطريق وإذا أنا بعِقد من مرجان -والدرة الواحدة منه تعادل آلاف الدنانير- فأخذته معي، قال: فلما وضعته في كمي وأنا فرح به سمعت وأنا داخل الحرم قائلاً يقول: من وجد العقد وله كذا وكذا، وعند ابن رجب: من وجد العقد فليدفعه لي، قال: فأتيت إلى الرجل فقلت: ما وصف عقدك؟ فوصف لي العقد والخيط الذي فيه، وعدد الدرر التي فيه، قال: فأخذته فدفعته إليه، فوالله ما ناولني درهماً ولا ديناراً، قلت: اللهم إني دفعتها ابتغاء وجهك فاجعلها لمرضاتك يا رب العالمين، قال: فأخذها وذهب لا أدري أين ذهب، فلبثت بعد الحج أياماً بسيطة، ثم سافرت فركبت البحر، فلما ركبت البحر انكسر بنا القارب الذي نحن فيه، فغرق أصحابي كلهم جميعاً وماتوا إلا أنا، أخذتني خشبة، قال: فركبت الخشبة ثلاثة أيام بلياليها بين الحياة والموت في البحر، قال: وأنا أسبِّح الله وأدعوه أن ينجيني، فدفعتني الخشبة إلى جزيرة؛ فنزلت في هذه الجزيرة، فدخلت مسجداً فوجدت فيه مصحفاً، فنظرت فيه أقرأ فدخل علي أهل المسجد فقالوا: تقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قالوا: تقرئنا بالأجرة؟ قلت: أقرئكم، فدفعوا لي أجرة فأقرأتهم، قال: ورأيت صحيفة فكتبت فيها، قالوا: وتخط أيضاً؟ قال: وأخط -هذه الجزيرة كأنها ما رأت خطاطاً ولا قارئاً- قالوا: علمنا الخط بالأجرة، قال: فكنت أعلم صبيانهم، فأتاني رجل من خيارهم وقال: إن هنا بنتاً يتيمة وأبوها رجل صالح من أصلح الناس، وإنه كان يدعو الله عز وجل أن يرزقها الله رجلاً صالحاً؛ أفتتزوجها؟ قال: أتزوجها.
قال: فلما التقيت بها رأيت العقد الذي وجدته في مكة في عنقها، فسألتها عنه، فأخبرتني الخبر، وقالت: حججت أنا ووالدي حجة، وهذا العقد معنا لأن أبي باع مالاً من أملاك ودور وعقار وجعله في هذا العقد، فضاع منا ووجدنا رجلاً صالحاً فرد لنا هذا العقد، فكان أبي تأسف بعد ما رجع إلى قريتنا ويقول: يا ليتني زوجتكِ صاحب ذاك العقد، فكان يدعو الله عز وجل أن يلاقي بيني وبين صاحب ذاك العقد، فنظر إلى العقد فقال: أنا صاحب ذاك العقد.
هذا حفظ الله عز وجل لمن يحفظه عز وجل.
والشاهد من هذه القصص: أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
وروي عن علي بن أبي طالب [[أنه دخل مسجداً في الكوفة وأراد أن يصلي ومعه بغلة، فرأى شاباً فقال: احبس هذه البغلة حتى أصلي، فأخذها بخطامها، ودخل علي رضي الله عنه يصلي، فلما دخل المسجد أخذ هذا الشاب خطام البغلة، وذهب به إلى السوق فباعه بدرهم؛ فخرج علي رضي الله عنه فسأل الناس: أين الشاب؟ قالوا: أخذ الخطام وذهب به، فأرسل علي وراءه فوُجد يبيع الخطام فقال له الرجل الذي أرسله بكم تبيعه؟ قال: بدرهم، قال: خذ درهماً، فاشترى منه الخطام بدرهم ثم أتى به إلى علي رضي الله عنه، قال علي رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لقد هممت أن أعطيك درهماً حلالاً، وقد أخذته اليوم حراماً]].
يأبى بعض الناس أن يسترزق إلا بالحرام، كان علي سيعطيه درهماً حلالاً، لكنه أخذ هذا الخطام وباعه بدرهم من رسول علي رضي الله عنه، فتجد بعض الناس بديناً سميناً قوياً ذا عضلات؛ ولكنه يسرق حذاءً أو شيئاً بسيطاً، كقلم، أو يختلس، ولو عمل في الحلال لرزقه الله عز وجل من حيث لا يحتسب، ولذلك تقطع أيدي بعض الناس على أقلام أو أحذية، أو على لباس بسيط، أو على خمسين ريالاً، وتجده يرتكب هذا الإجرام بسبب أنه ما سلك الحلال، والله قد بين طريق الخير وطريق الشر، وجعل الإنسان على نفسه بصيرة.