[توبة مالك بن الريب]
وهذا مالك بن الريب الشاعر، ولا أعرف قصيدةً في الرثاء أجمل ولا أحسن ولا أجل من قصيدة مالك بن الريب، تبكي العيون، كتبتها لأقرأها وكأنه يقطع من قلبه، هذا الشاب خرج ضالاً معرضاً عن الهداية، لا يصلي ولا يسجد لله سجدة ولا يركع لله ركعة، خرج مع شباب إلى طريق العراق وخراسان، إذا أتت القافلة ترصد لها ثم قبض على أهل القافلة وأخذهم وذبحهم وأخذ القافلة، إذا مرت ظعينة أخذ الظعينة، إذا مر الرجل على دابة ذبح الرجل وأخذ الدابة، سارق وقاطع طريق، والله عز وجل مهما تمرد العبد فإنه فتح باب التوبة، وسبحان الله ما أحلم الله! تصور أن إنساناً يحمل في نفسه بعض الإساءات من الإنسان، لكن الله حليم، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:٤٢] لكن الله صاحب الحلم الواسع تبارك وتعالى، حتى مهما قتل الإنسان ومهما اعتدى ثم عاد قبله الله، فهذا كان يفتك في العباد فتكاً، وفي صباح يوم مشرق أرسل خيوط شمسه الذهبية على الكون ليكون يوم الميلاد لهذا الشاعر، ليكون يوم الهداية والرجوع والتوبة إلى الله، أتت القافلة وقائدها سعيد بن عثمان بن عفان ابن أمير المؤمنين، هؤلاء الشباب على سيماهم أنوار الهداية وعلى وجوههم إشراقات، شباب يريدون الجهاد رافعين سيوفهم وحاملين رماحهم يريدون القتال في سبيل الله، مروا بهذا الشاب فقالوا: يا فلان! من أنت؟ قال: أنا مالك بن الريب.
قالوا: ما أجلسك هنا؟ قال: لي أغراض -هم لا يدرون ما هي الأغراض- قال تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:١٨] قال: وأنتم إلى أين خرجتم؟ قالوا: خرجنا نقاتل في سبيل الله، قال: كيف تقاتلون في سبيل الله؟ قالوا: نقاتل، قال: وماذا جزاؤكم إذا قاتلتم في سبيل الله؟ يريد أن يعرف ما هي الثمرة من ذلك، قالوا: شرى الله أنفسنا بالجنة، قال: في ماذا؟ قالوا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّه ِ) [التوبة:١١١] قال: هذا كلام الله؟ قالوا: نعم هذا كلامه.
قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتوب إلى الله، ثم وضع يده في يد القائد وتاب إلى الله وذهب معهم وباع نفسه من الله، ولما عاد -وقد قاتل في المعركة- يريد أهله وفي الطريق لدغته حية، فورم جسمه وأخذ يرتعش من السم، فبكى من الفرح، وقال: الحمد لله الذي توفاني على توبة قبل أن يتوفاني على ضلال، وقبل سكرات الموت سجل قصيدةً من أجمل وأحسن القصائد! قصيدة الصدق والإنسان في سكرات الموت، قصيدة تصل إلى القلوب لمن يعي الأدب العربي يسمونها: مالك بن الريب يرثي نفسه، أو القصيد المبكية المحزنة، يقول من ضمن أبياتها:
دعاني الهوى من أهل أود وصحبتي بـ ذي الطبسين فالتفت ورائيا
يقول: أتاني الضلال وجنون الشباب والغرور وزملاء السوء ورفقة الضلالة والمجرمون -عصابات الإجرام- دعوني فأخذوني من بيت أهلي وذهبت إلى الطبسين وتركت أهلي في العراق لأفسق، قال: فوصلت إلى هناك
دعاني الهوى من أهل أود وصحبتي بـ ذي الطبسين فالتفت ورائي
فما راعني إلا سوابق عبرة تضعضعت منها أن ألوم ردائيا
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
رحمك الله ورحم الله ابن عفان وأباه
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وماليا
ما أحسن هذه الخاتمة الحسنة؛ يوم تركت أبنائي وأطفالي وزوجتي وأمي وأخواتي ومت في سبيل الله! لأن المقصد أن نلتقي في الجنة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:٢١].
يقول عبد الله بن أنيس: {أين ألقاك يا رسول الله غداً؟ قال: في الجنة إن شاء الله، قال: أعطني علامة، قال: خذ هذه العصا فتوكأ بها في الجنة} والمتوكئون بالعصي قليل فأخذها ودفنت معه.
أتى إعرابي وقال: {يا رسول الله! أين ألقاك يوم الزحام؟ -يقول: المسألة صعبة ما أدري كيف أهتدي لك؟ من أسأل عنك يوم الحشر يوم يجمع الله الأولين والآخرين؟ - فدمعت عينا الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: تلقاني عند ثلاثة مواقف:
إما عند الحوض- يوم يسقي الناس عليه الصلاة والسلام.
وإما عند تطاير الصحف فآخذ باليمين وآخذ باليسار.
وإما عند الصراط وهو يقول: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم} فناج مسلَّم ومكردس على وجهه في النار
واستشفع الناس بأهل العزم في راحة العباد منذ الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها
فيقول:
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وماليا
يقول: كل الدنيا تهون يوم ذقت الهداية، وذقت النور لا تساوي الدنيا شيئاً، قال:
ودع خليلي اللذين كلاهما علي شفيق ناصح لو نهانيا
يقول: وسلام على أبي وأمي وهما شيخان كبيران، فيقول: الحمد لله! أخبروهم أنني مت على هداية ونور، فلا يبكون علي، وإنما البكاء على من مات معرضاً، ثم قال لإخوانه:
ولا تحرماني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
يقول: وسعا في القبر قليل، لا تحرماني من الأرض فقد أصبحت منزلي:
ولا تحرماني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كان قبل اليوم صعب قياديا
يقول: الآن أصبحت ليناً ما عندي منعة ولا قوة -كما قال الوليد بن عبد الملك عندما كان خليفة، كان جباراً قوياً حتى يقول الذهبي: كان غشوماً ظلوماً، فلما أتته سكرات الموت أصبح كالحبل انقطع، فقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٨ - ٢٩].
قال:
خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كان قبل اليوم صعب قياديا
قال: كنت شجاعاً لكن:
إذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
ثم يقول:
وأشقر خنذيذ يجر لجامه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا
يقول: فرسي -والحقيقة هذا تصوير عجيب- يقول: حتى الفرس بعد قليل سوف يذهب إلى الماء وهو بلجامه ما ترك له الموت ساقيا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
العرب إذا دفنوا حبيبهم يقولون: لا أبعدك الله! يدفنونه في التراب ويقولون: لا أبعدك الله! فيرد عليهم بقوله:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
أحد الشعراء وهو التهامي دفن ابنه، ومن حبه لابنه بكى عليه في أعظم قصيدة في تاريخ الرثاء، أي: في رثاء الأبناء، وهذا في رثاء النفس، فقال من حبه له: والله لا أدفنه في المقابر إنما أدفنه هنا في بيتي، فحفر له عند منامه، فدفنه وقال: لا أبعدك عني، والله إن بعد ما بيني وبينك بعد ما بين المشرقين، والحي الذي في الأندلس أقرب منك، حتى يقول في قصيدته:
إني وترت بصارم ذي رونق أعددته لطلابة الأوتاري
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
يقول ابن القيم في ترجمة التهامي: رئي التهامي في المنام بعدما مات فقالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة.
قالوا: بماذا؟ قال: ببيتي الذي قلت فيه:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
يقول: تركتني في الحياة للحساد وللأعداء وللظلمة وللمنغصين وجاورت أنت الله، شتان بين جواري وجوارك
طول الحياة إذا مضى كقصيرها والعز للإنسان كالإعسار
أو كما قال فالمقصود أنه يقول:
لعمري لئن غالت خراسان هامتي لقد كنت عن باب خراسان نائيا
إلى أن يقول:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
وبالرمل لو يعلمن علمي نسوة بكين وفدين الطبيب المداويا
عجوزي وأختاي اللتان أصيبتا وباكية أخرى تهيج البواكيا
ذكر الأسرة والأحداث التي سوف تمر، ثم عد نفسه أنه مات -إن شاء الله- في سبيل الله، وقال: لا لوعة ولا فراق ولا خوف وأنا مقبل على الله، فلله الأمر من قبل ومن بعد، فالمخذول من خذل عن طريق الاستقامة، والمحروم من حرم هذا النور الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، والمقطوع حبله من لم يعرف طريق الجنة: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:١٠٤] فنعوذ بالله من الخذلان.
وهذه -أيها الإخوة- دروس على طريق التوبة يشاهدها الإنسان صباح مساء، يشاهدها حين يذنب وحين يخطئ، ثم يتفكر أنه لا بد له من واحد أحد إله رحيم يتلجئ إليه.
وما نعلم أحداً من الناس إلا وهو مذنب؛ متكلم وسامع وصالح وعالم وداعية، يقول ابن عباس: [[تحترقون تحترقون ثم تصلون فيكشف ما بكم]] أي: من الذنوب والخطايا، وقال في أثر آخر: [[إنكم لا بد لكم من الذنوب، فأصبحوا تائبين وامسوا تائبين]].
أيها الإخوة في الله: علينا أن نجدد المسيرة والإقبال إلى الله، وعلينا أن نكون رسل خير وهداية، وأن نؤثر في الناس عل الله أن يهدي على أيدينا عباده الصالحين، فإن من اهتدى وعرف الطريق وأصاب ليس كالذي ظل وركب رأسه، نعوذ بالله من الخذلان! {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:٢٣] يقول عز وجل عن هؤلاء: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:٢٣].