[إرشادهم لأسلوب الخطاب]
قال تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:٤٨ - ٤٧] فعلمهما أسلوب الخطاب، وعلمهما كيف يوجهان الكلام، قال لهما:
أولاً: أخبراه أنكما رسولان من عند الله.
ثانياً: خذا بني إسرائيل من مصر، واذهبوا إلى فلسطين.
ثالثاً: سلما على من اتبع الهدى، وهذا من أسلوب الدعوة، ولم يقل: سلما عليه - لا سلمه الله- فإنه ضال، ولم يقل: اتركا السلام، ولكن سلما علَّ في المجلس مؤمناً، وبشراه أن من أسلم لله أدركه السلام.
ولذلك في صحيح البخاري من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كتب لـ هرقل، فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى، أمَّا بَعْد: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين} الحديث.
السلام على من اتبع الهدى: هذا الشاهد، قال: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) [طه:٤٧] {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:٤٩] الآن دخلا عليه وأصبحا في القصر، ولكن هنا كلام محذوف تقديره: فأتيا وقرعا الباب، والعجيب أن ابن كثير أورد قولاً -نرويه- يقول: بقي موسى عليه السلام وأخوه يترادان ويطلبان الإذن بدخول القصر سنتين من الصباح والمساء، وهذا من الإسرائيليات.
وموقفنا من الإسرائيليات ثلاثة مواقف:
أما ما كانت في كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فهذا تحصيل حاصل لسنا بحاجة إليها، ونحن في غنية بما عندنا.
وأما ما عارض الكتاب والسنة، فنردها ونرمي بها عرض الحائط.
وأما ما لم يعارض ما في كتابنا، ولا كان له أي ضرر، فنرويها، كما قال عليه الصلاة والسلام: {وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج}.
فأتى موسى وهارون عليهما السلام يستأذنان، وقيل: إن موسى عليه السلام كان يضرب باب القصر الخارجي ودونه باب، ودون الباب باب، ودون السرادق سرادق، فأخذ يضرب الباب بالعصا يستأذن عليه السلام، ما أقوى موسى! وما أشجعه وما أجرأه!
فخرج الجنود: ما لك؟ قال: أريد فرعون، لماذا؟ قال: أدعوه إلى الله، قالوا: هو الله، لأن فرعون يقول لهم: ما علمت لكم من إله غيري، ويقول: أنا ربكم الأعلى، ويقول: وهذه الأنهار تجري من تحتي؛ فأجراها الله من فوق رأسه، فأخذ موسى يطرق، فخرج الجنود، قالوا: ما لك مجنون!، قال: ما أنا مجنون! -لكن عندي طب المجانين، عندي علاج للمجانين، أكبر مجنون عندكم هنا في القصر أريد علاجه، مجنون لا يعرف الله، لا يعرف طريق الله، ولا يعرف الجنة ولا النار، أخبروا فرعون، قالوا: في الباب مجنون يضرب الباب بعصاه يريد أن ندخله عليك.
قال: أدخلوه وهو يريد أن يضحك عليه، فجمع وزراءه، فلما دخل، كان الواجب أن ينتظر فرعون حتى يتكلم موسى، أنت إذا أتاك ضيف أتقول: أخبارنا وأمطارنا وأشعارنا أم تنتظر الضيف يتحدث؟! فلما دخل أراد أن يضحك على موسى، لكن موسى ضحك عليه، وعلى قومه، فموسى عليه السلام معه العصا يتوكأ بها، وبجانبه هارون يترجم له، موسى يعرف بعض الكلمات يقول بعض الكلمات، لكن إذا كثرت الكلمات تولى الترجمة هارون عليه السلام.
أتى فرعون يتكلم وقال: فمن ربكما يا موسى؟ الآن السؤال محرج، إن قال موسى عليه السلام: ربي الله فربما وافق ذلك ما في نفس فرعون لأنه يدعي أنه إله، وإن قال له: يا قليل الحياء، يا قليل المروءة، يا قليل الدين هذا سؤال خاطئ! جرح شعوره، والله يقول له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤] وإن قال له: الله الذي خلقك، ربما يزري به أمام الجلوس ويجرح شعوره، لكنه قال: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠].
قال بعض المفسرين: لله دره من جواب! ما أحسنه! {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠] إن كنت أنت الذي أعطيت كل شيء خلقه ثم هديت فأنت إله، وإن كنت لا تخلق ولا تصنع، فلا ندري.
هذا هو الجواب، يقول: إن الذي خلق كل شيء، وأعطى كل شيء خلقه وهداه ويسره وجعله سميعاً بصيراً هو ربنا، ولذلك أفحم فرعون بهذا الجواب، وهذا يسمى الجدل في القرآن، ومن ميزات الجدل في القرآن أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يستمرون في نقطة واحدة إذا جحدها المجرم، أو أنكرها فتركه، كيف أعطى الله كل شيء خلقه ثم هدى؟ كيف هدى الإنسان، وهدى الحيوانات والعجماوات والطيور والزواحف؟ هدى النحلة إلى خليتها وهي تقطع مئات الأميال، هدى كل شيء، هدى بعض الحيوانات وهي عمياء.
نقل ابن الجوزي حول هذه الآية: أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هدى كل مخلوق لكل ما ينفعه في الحياة إلا الكافر، فإنه لم يهتد بهدى الله عز وجل إذا ضل.
يقول ابن الجوزي: رأى بعض الصالحين في نخلة حية عمياء وسط نخلة من النخيل، قال: فرأيتها تلتمس الغذاء، فلم تجده وهي في نخلة مرتفعة وعمياء، قال: فرأيت عصفوراً يأتي وينقل لحماً وطعاماً، فإذا اقترب منها، صفر العصفور فرفع منقاره، فوضع اللحم في فيها، أليس هذا من الخلق والهداية؟!
وذكر أحد علماء الغرب في كتاب له العلم يدعو إلى الإيمان أو الإنسان لا يقوم وحده " وهو يسمى كريسي موريسون يقول: هناك حيات وثعابين -وهو صحيح- تأتي إذا أرادت أن تبيض في الأنهار وفي البحار التي تتجمد وتصبح ثلجاً، فتهاجر إلى المشرق لتبيض هناك، فإذا فقست بيضها، هاجرت أبناؤها إلى المحيطات تلك، فمن هداها؟
وهناك طيور إذا أدركها موسم الشتاء هاجرت إلى أفريقيا، فإذا انتهى الشتاء في بلادها، قطعت آلاف الأميال وعادت.
وهناك الجراد إذا أدركته المجاعة، زحف إلى المزارع التي فيها زرع وأكل وشرب، فمن هداه إلا الله! سبحان الله! {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:٥٠].
الآن بهت فرعون وانهزم، ومال إلى سؤال آخر: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:٥١] يا موسى، أين أجدادنا وأجداد أجدادنا والقرون التي سلفت إن كنت صادقاً؟ ما لهم أحوسبوا؟ أعذبوا؟ ماذا كانوا يعبدون؟ ولو كان الجواب من غير موسى، فسوف يقال له: وما دخلك أيها الأحمق؟ وما دخلك أيها الوقح في هذه القضايا؟ لكن لأن الله قال لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:٤٤] فقال بأسلوب بلاغي عجيب: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:٥٢] أنا وإياك لا ندري، لكنها والله في دواوين محفوظة، وفي سجلات مرسومة، وفي دفاتر مكتوبة، لا يضل ربنا مكانها، ولا ينسى علمها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وللحديث بقية لنستفيد من هذه الدروس والعبر.