[أسلوب الداعية في الدعوة]
أما بعد:
فهذه عشر سنوات طويلات قصيرات، فيها حسنات وسيئات، ومضحكات ومبكيات، مرت بسرورها وحزنها، ونعيمها وبؤسها، وغناها وفقرها، ولذتها ومعاناتها.
فتصرمت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أيام
ثم انبرت أيام هجر أعقبت صبري أسىً فكأنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
انتهت هذه العشر عندنا، ولكن ما انتهت عند الله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:٥٢].
أما بعد:
فإن الداعية ليس له حقل واحد لا يعمل إلا فيه، بل حقول متعددة، وميادين مختلفة، ومنابر شتى، فالدعوة لا يحدها حد، ولا يحصرها حصر، ولا يقيدها قيد.
إن الدعوة تجري في دم الداعية، يقولها كلمة، يصوغها عبارة، ينشدها قصيدة، يدبجها خطبة، ينقلها فكرة، يؤلفها كتاباً، يلقيها محاضرة.
إنها قد تكون مع النفس محاسبة ومراقبة، وتكون مع الأم براً وحناناً، ومع الأب شفقة ورحمة، ومع الابن تربية وأدباً، ومع الجار إحساناً وبراً، ومع المسلم مصافاة ومودة، ومع الكافر دعوة وحواراً، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يتلطف بأبيه، يا أبتي! يا أبتي! يا أبتي!
وهذا نوح ينوح على ابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:٤٢]
وهذا لقمان يترفق بابنه وفلذة كبده، يا بني! يا بني! يا بني!
وهذا موسى يعطف على فرعون، وهذا مؤمن آل فرعون يقول لقومه: يا قومي! يا قومي! وهذا مؤمن آل ياسين، ينادي وهو في الجنة: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:٢٦]
إن الدعوة هم لازم، وواجب دائم، فهي معك في السيارة والطيارة والسفينة، وفي النادي والجامعة والمزرعة والمتجر، قد تدعو بسيرتك أكثر من كلامك، وتدعو بصفاتك أعظم من خطبك، وتدعو بخلقك أحسن من محاضراتك، ليس للداعية وقوف.
سجن يوسف فدعا في السجن، وطرد نوح فدعا في السفينة، وحوصر محمد صلى الله عليه وسلم فدعا في الشعب، وطوق فدعا في الغار، وطرد فأنشأ دولة.
قيل لشيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره: إن السلطان أمر بإخراجك إلى قبرص، قال: والله إن بي من السرور والفرح ما لو وزع على أهل الشام لوسعهم، والله إني كالغنمة -هذا لفظه- لا تنام إلا على صوف، إن خرجت إلى قبرص دعوتهم إلى لا إله إلا الله فأسلموا، وإن سجنت خلوت بعبادة ربي، وإن قتلت فأنا شهيد.
ليس من المهم عند الداعية، أن يكون له جمهور حاشد أو حفل بهيج أو مستمعون كثر، المهم أن يقول الحق، وأن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر، وأن يحمل الميثاق بأمانة، وأن يبلغ الشريعة بصدق: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:١٨٧] بعض الأنبياء لم يستجب له أحد، والبعض استجاب له واحد أو اثنان، والبعض جماعة، وبعضهم دعا عمره كله ثم قتل ولم يطعه بشر، وأنبياء آخرون مكثوا السنون الطويلة يدعون ثم نشروا بالمناشير.
سيدي علل الفؤاد العليلا أحيني قبل أن تراني قتيلا
إن تكن عازماً على قتل روحي فترفق بها قليلاً قليلا