تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)
قال الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:٢٣] يا أيها الناس! يا عباقرة الدنيا! يا أذكياء المعمورة! يا من ظن نفسه فصيحاً! أو بليغاً، أو شاعراً مجيداً، أو صحفياً، أو قصصياً! تعالوا إلى القرآن، هذا إعلان التحدي، وهو إعلان لم يواجه ولم يجابه منذ خمسة عشر قرناً، ومن في رأسه شيء فليأت، ومن في رأسه حب لم يطحنه اليقين، ولا التوحيد والعقيدة الصحيحة، فليقاوم ولو بآية أو بسورة {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة:٢٣] أي: في شك، وقد سبق في أول السورة أن قلنا إن الريب يطلق على الشك، وعلى التهمة، أما الشك فهو الارتياب في القلب، يقول الله: {َإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة:٢٣] أي: من صدق هذا القرآن، أما صدقتم؟!
أما تعلمون أنه حق؟!
أما تدرون أنه صدق كالفجر؟!
إن كنتم شاكين، فائتوا بسورة من مثله، وقيل: إن كنتم في اتهام لهذا القرآن، يقول جميل بثينة في إحلال التهمة محل الريبة:
تقول بثين يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب
تقول: اتهمتني، فيقول هو: وأنت متهمة، فكلنا متهمون، وهذا جميل أذكره، ومجنون ليلى وكثير عزة والشريف الرضي وأبا نواس، وأمثالهم من شعراء المرأة؛ للاستشهاد بشعرهم، وإلا فليست حياة المؤمن كحياة هؤلاء، حياة ستين سنة في حب امرأة، يحبها ويولول بصوتها، وبشعرها وأسنانها، إنها ليست بحياة حياة الذين لا يعقلون، ولا يعلمون، فليست الدنيا حياة مسرح وأغنية وفن، وقد قيل لأحدهم: كم عمرك في الفن؟
قال: أربعون سنة، بل أربعون صفراً، أربعون في ظلام، وأربعون وأنت ضائع، وأربعون وأنت ما رأيت النور أبداً، وميلادك إنما يكون يوم تتوب توبة نصوحاً.
قيل لأحد الصالحين وهو في الستين: كم عمرك؟ قال: سنتان، قالوا: سبحان الله! أنت في الستين، قال: ما تبت إلا قبل سنتين، أما ثمان وخمسون فكانت في ضياع، فميلادنا يبدأ من يوم نتوب توبة نصوحاً.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
ولذلك كررت -وسوف أكرر- كلام ابن تيمية في مختصر الفتاوى، قال: "للإنسان ميلادان: الميلاد الأول: يوم أتت به أمه، والميلاد الثاني: يوم تاب إلى الله وأقبل عليه، فأما الميلاد الأول فالخلق كلهم مشتركون فيه، فالثور تَلدُهُ أُمه، والنعجة، والدجاجة، والحمامة، والإنسان، فالإنسان سواء هنا أو هناك؛ الخواجة، الأشقر، الأسود، الأحمر.
فهذا ميلاد.
لكن الميلاد الثاني لا يولده إلا المؤمن: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:١٢٢].
عمر كم عمره؟ ثلاث وستون سنة، أسلم وهو شاب! لكنه ألغى عمره الأول، فكان ميلاده يوم قال: لا إله إلا الله.
سعد بن معاذ أسلم وعمره ثلاثون سنة، فشطب على الثلاثين، وألغاها من الحساب، وبقيت له سبع سنوات، وهي عند الله خيرٌ من سبعة قرون.
عمر بن عبد العزيز عاش أربعين سنة، أما ثلاثون شهراً فتولى أمر الأمة، وما قبلها لم يحتسب من عمره.
وقد قال أبو تمام في محمد بن حميد الطوسي وقد مات شهيداً:
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيتُ الكريمَ الحرَّ ليس له عمر
ولذلك بعض الناس يعيش في الإسلام سنة، وهي خيرٌ عند الله من ثلاثين قرناً، وبعضهم يعيش مائة سنة، وهي لا تساوي لحظة واحدة.
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر
(يا أيها الناس) قال أهل التفسير: الخطاب للناس عامة.
(مِمَّا نَزَّلْنَا) في القرآن تأتي أنزلنا، وتأتي نزلنا، وللسيوطي وأمثاله لطائف في هذا، يقول: إذا قال: (نزلنا) فهو على التفصيل، أي: (نزلناها) آية آية، سورة سورة، مقطعاً مقطعاً، وإذا قال: أنزلنا، فمعناها: أنزلنا القرآن مرة واحدة من السماء السابعة أو من اللوح المحفوظ -وهو الصحيح- إلى سماء الدنيا.
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:١] أي: جملة، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وإذا قال: نزلنا، فمعناه: آية آية، منجماً مقطعاً.