[السابع: تأثير الرفاهية العصرية في الجد والاجتهاد]
يظن بعض الناس أنه كلما كثرت النعم، كلما كانت الأمة أصلب، وهذا بالعكس، فكلما كثرت النعم كلما كانت الأمة أكثر ترفهاً وفتوراً وكسلاً.
فتح الشباب من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وأحدهم لا يملك إلا ثوباً واحداً.
دخل ربعي بن عامر برمح مثلم على كسرى ورستم، وهزه وهز عروشهم بهذا الرمح المثلم.
دخل الصحابة إيوان كسرى، والواحد منهم لا يشبع من خبز الشعير، قُتلوا في قندهار وهم جوعى ثلاثة أيام، فماذا نفعتنا رفاهيتنا وقصورنا، وسياراتنا وحدائقنا، وبساتيننا وأكلاتنا؟ المطعومات والملبوسات والمفروشات!!
حتى إن علماء التربية يقولون: إن أكثر ما يُوجد الترهل في الروح المعنوية للشخص كائناً من كان -بغض النظر عن المسلم أو عن غيره- هي فيما يعيشه من رغد العيش.
تولى أحد ملوك الأندلس الملك وكان متقشفاً، وكان له جيش عرمرم طوق به الأندلس كلها، فلما مات تولى ابنه بعده، فكان يسكن مع الغناء صباح مساء، برنامجه اليومي الأغاني والموسيقى والضياع، فعنده الدفافين والمطبلين والمزمرين ومن يحيون -يميتون- الليالي السود، ولا يعرف من الدنيا إلا هذا، وفي الأخير أتى ملك الفرنجة فاجتاح الأندلس، وقيد هذا الملك الشاب وخلعه وربطه في السجن، فأتت أمه تزوره، فبكى عند باب السجن فقالت:
ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
وكذلك كل من يريد أن يكون له دور في الحياة فلا تكن طموحاته محدودة، مثل أن يصل إلى زوجة وفلة وسيارة ووظيفة ثم ينتهي، لا.
طموحاتنا أعلى، وأنا أحبذ أن تقرءوا رسالة في مقدمة قصص من التاريخ للأستاذ الأديب: علي الطنطاوي، فقد أجاد كل الإجادة، في تلك المقالة التي يقول فيها: نحن مسلمون فما هي مهمتنا في الحياة؟
لماذا بعثنا الله للناس؟
لماذا أخرجنا من الظلمات إلى النور؟
الصحابي الواحد يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! تمنعني دخول الجنة، والله لأدخلن الجنة؛ لأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف}.
ويأتي جعفر الطيار من الحبشة بعد هجرة سبع سنوات، كان في أثيوبيا في شدة الحرارة والجوع والفقر والمشقة، فيصل إلى المدينة، فهل يجازيه الرسول صلى الله عليه وسلم على هجرته في الله أن يعطيه فلة، أو يعطيه جائزة سخية مالية، أو يُوكل إليه منصباً؟ لا.
أرسله ليدفق دمه، ويدفع روحه في مؤتة في سبيل الله، فقطعت يده اليمنى، فأخذ الراية باليسرى، فقطعت اليسرى فضم الراية بصدره فتكسرت الرماح في صدره وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إن لاقيتها ضرابها
فقتل رضي الله عنه.
قال صلى الله عليه وسلم بعد لحظات من مقتله: {والذي نفسي بيده لقد رأيت جعفر بن أبي طالب يطير في الجنة بجناحين أبدله الله مكان يديه، يطير من قصر إلى قصر ومن شجرة إلى شجرة}.
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
اجلس برفق عليك التاج مرتفقاً بتاج غمدان حالاً بعده حالا