هناك أمور نسبية تقريبية أذكرها لكم، والأصل في ذلك ما في الصحيحين من حديث ابن عمرو أنه كان يختم القرآن كل ليلة، ويصوم كل يوم واعتزل أهله، فذهبت امرأته إلى أبي عبد الله عمرو بن العاص داهية العرب، الصحابي الجليل، فشكت زوجها، فهي تريد حياة زوجية -فهو رضي الله عنه وأرضاه ظن أن الإسلام عبادة فقط، وإلا فالسعي على الأهل عبادة، وإعطاء الزوجة حقها عبادة، وطلب التجارة لمرضات الله عبادة، والكسب عبادة، والجهاد عبادة، والنوم إذا قصد به وجه الله عبادة، لكن ابن عمرو رضي الله عنه وأرضاه ظن أنه للعبادة فقط، قراءة وصيام، يصوم النهار ويفطر مع الغروب، يصلي المغرب والعشاء ويأتي وقد نامت زوجته، ويصلي إلى الفجر ويبكي وأصبح برنامجه هكذا- فذهبت إلى أبيه وقالت: تزوجت رجلاً ليست له حاجة بالنساء، إذا كان كذلك فليطلق سراحها، فذهب عمرو بن العاص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ورفعه إلى القائد الأعلى؛ فهذه قضية لا يفصل فيها إلا محمد صلى الله عليه وسلم لأمرين:
الأمر الأول: إما لأن عمرو بن العاص يريدها أن تكون قاعدة للناس جميعاً؛ لأنه يريد أن يأتي من المشرِّع صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أو أن عمرو بن العاص أراد ألا يواجه ابنه، وأراد أن يكون الخطاب لابنه من محمد عليه الصلاة والسلام ليكون أنفع وأقبل.
فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:{يا رسول الله! ابني زوجته فتاة جميلة من آل فلان، ثم تركها، فكان يصوم النهار ويقوم الليل، قال: ائتني بابنك، فلقيه صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا عبد الله! أأنت الذي يقال عنك أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: نعم يا رسول الله! وما أردت إلا الخير، قال: لا إن لربك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه} ما أجمل الإسلام! ما أجمل التشريع! هكذا الروعة، وهكذا الإبداع، وهكذا الجمال! دين يتربى عليه البدوي في الصحراء، والملك في القصر، والجندي في الساحة، والفلاح في المزرعة، والتاجر في الدكان، دين عام حق يصل إلى القلوب، ليس كدين الكنيسة أو الرهبوت أو الكهنوت، التي قال الله عنها:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}[الحديد:٢٧].
أما ديننا فدين كامل يصلح للجميع، فلما أعطاه هذه القاعدة، قال:{اقرأ القرآن في شهر، يعني اختم القرآن في شهر ولو أن في بعض الروايات يذكرها بعض المحدثين في أربعين يوماً، لكن لا أظن أنها صحيحة، ففي الصحيحين في شهر يعني: في كل يوم جزءاً- قال: إني أستطيع أكثر من ذلك، قال: اقرأه في عشرين -وفي بعض الألفاظ في خمسة وعشرين- قال: أستطيع أكثر من ذلك، قال: اقرأه في خمسة عشر، قال: أستطيع أكثر من ذلك، قال: اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك} لأن أمامك متطلبات؛ قد يمرض الإنسان أو يسافر، أو قد يأتيه ضيف قريب أو جار أو رحم.
ونازله صلى الله عليه وسلم في الصيام وقال له:{صم من كل شهر ثلاثة أيام، قال: أستطيع أكثر من ذلك، فزاده صلى الله عليه وسلم حتى قال له: صم يوماً وأفطر يوماً} وهذا صيام داود عليه السلام.
ثم أخبره بقيام الليل، فقام ابن عمرو، ولما كبر ابن عمرو وشابت لحيته ورأسه ودقَّ عظمه، قال:[[يا ليتني قبلت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم]] يقول: يا ليتني ختمته في شهر، وياليتني صمت من كل شهر ثلاثة أيام.
والسبب أنه ما يريد أن يترك شيئاً شبَّ عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم بعيد النظر ويربي أجيالاً؛ لأن هذا الدين للملايين ليس لي ولك فقط، صحيح أنك تستطيع شيئاً، أما أن تفرضه علي فلا، أنت أعطاك الله عضلات وقوة تستطيع أن تفعل شيئاً، لكن أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، ولذلك ترك التطوع للناس.