[تحويل القبلة]
لما نزل صلى الله عليه وسلم المدينة ظل يصلي ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، على خلاف بين أهل العلم، منهم من يحسب الكسر في الأيام فيجعلها سبعة عشر شهراً، ومنهم من يلغي بعض الأيام فيجعلها ستة عشر شهراً، كان يصلي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ولكن كان يحز في نفسه فلا يريد أن يوافق اليهود؛ لأن اليهود يأخذون هذا حجة عليه صلى الله عليه وسلم، ويقولون: انظروا إليه، حتى القبلة يستقبل قبلتنا في فلسطين وهي بيت المقدس، ما عنده قبلة يستقبلها، فكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله كثيراً، ويقلب وجهه في السماء، ويدعو أن يحول الله قبلته إلى البيت العتيق، فيقول تبارك وتعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:١٤٤] فولاه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى شطر البيت العتيق، فلما انحرف صلى الله عليه وسلم إلى البيت العتيق، قال اليهود: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:١٤٢] فأتى الرد من الله عز وجل: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة:١٤٢] سفهاء لا أحلام لهم ولا عقول: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:١٤٢] وهل لكم بيت المقدس أو مكة؟ وهل هي من دخلكم أو من صنيعكم؟ يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:١٤٢] لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى المشرق والمغرب، له ما كان يولي إليه في بيت المقدس وفلسطين، وله الكعبة ومكة ولا دخل لكم أنتم، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:١٤٢] فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستقبل البيت العتيق، ويترك بيت المقدس، فوَّلى البيت العتيق، فأتى صلى الله عليه وسلم فلما ولَّى شطر البيت العتيق، أرسل رجلاً ممن كان معه صلى الله عليه وسلم، وقال: اذهب إلى بني سلمة في قباء، وأخبرهم أن القبلة قد حولت فليتحولوا، فأرسل عباد بن بشر رضي الله عنه، وهو من الشباب الذين رباهم صلى الله عليه وسلم على سمع وبصر، وتركوا كل لذة في الدنيا وكل راحة، وجعلوا أوقاتهم وأيامهم ولياليهم شهادة في سبيل الله تعالى، أرسله صلى الله عليه وسلم في مهمات، فكان يأتي في كل مهمة وهو ناجح ظافر فالح، ويدعو له صلى الله عليه وسلم بالجنة.
أرسله صلى الله عليه وسلم مع رجال معه من الأنصار ليغتال سيد خيبر من كفار اليهود؛ لأنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا عباد! اذهب إلى ذاك} ذهب عباد ونادى ذلك اليهودي في ظلام الليل، فخرج ذلك اليهودي، فقتله بالسيف، ثم عاد عباد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى وجه عباد ذاك الشاب المستنير بالإيمان: {أفلح وجهك يا عباد قال: ووجهك يا رسول الله! قال: ماذا فعلت به؟ قال:
صرخت له فلم يعلم بصوتي وأقبل طالعاً من رأس جدر
فعدت له فقال من المنادي فقلت: أخوك عباد بن بشرِ
فأقبل نحونا يهوي سريعاً فقطعه أبو عبس بن جبر
وكان الله سادسنا فعدنا بأعظم نعمة وأجل نصر
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: {اللهم اغفر لهم وأدخلهم الجنة} وبقي عباد رضي الله عنه على العهد، يقوم الليل دائماً، وكان يبكي بصوته إذا قام الليل حتى يقول صلى الله عليه وسلم: {رحم الله عباداً! لقد أذكرني البارحة آية كنت أنسيتها من القرآن} فهو صلى الله عليه وسلم ينسى فترة، ولكن يعود له القرآن لأنه منزل في قلبه لا ينسى منه شيئاً، لكنه ينسَّى ولا ينسى، إلا ما شاء الله.
وحضر عباد معركة اليمامة ضد مسيلمة الدجال الكذاب، وضرب على وجهه بالسيف أكثر من عشر ضربات بعد أن قتل ما يقارب خمسمائة مقاتل حتى ما عرفوه وقتل رضي الله عنه، ولكنه لم يقتل أبداً، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:١٧٠].
أرسله صلى الله عليه وسلم فأتى إلى بني سلمة الذين هم في قباء -الآن المسجد المعروف- وهم يصلون العصر فقال: إن القبلة قد تحولت فتحولوا، فدار الإمام وهو في الصلاة، ولم تبطل صلاتهم؛ لأن الحركة إذا كانت في صالح الصلاة لا تبطل الصلاة، وفيه من الحكم والفوائد:
أن خبر الواحد يقبل، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل هذا، فقبلوا خبره وامتثلوا خبره، وتحولوا عن القبلة رضي الله عليهم.
هذا الحديث وهذا ما ورد فيه، ولم نعرج على بعض الخلاف للألفاظ التي لا طائل من ورائها.