[عظم المسئولية عند عمر]
خرج عمر من المدينة -والقصة يرويها ابن كثير - عن طلحة بن عبيد الله قال: [[خرجت وراء عمر فدخل بيتاً -وروى ابن القيم هذه القصة لـ أبي بكر، ولكن يرويها ابن كثير لـ عمر - قال: فدخل عمر على عجوزٍ عمياء حسيرة، فلما خرج دخلت أنا, فوجدت المرأة العمياء الحسيرة, فقلت: من أنتِ يا أمة الله؟
قالت: أنا امرأة عجوزٌ حسيرة عمياء في هذا البيت, قال: ومن هذا الرجل الذي يأتيكِ؟ قالت: لا أعرفه, وهو عمر، قال طلحة: وماذا يفعل إذا أتى؟ قالت: يكنس بيتي، ويحلب شاتي، ويغسل ثوبي، ويصنع الفطور لي، فبكى طلحة حتى جلس، ثم قال: أتعبت الخلفاء بعدك يا عمر]].
إنه التاريخ.
أيا عمر الفاروق تدعوك لهفةٌ يباشر مكواها الفؤاد فينضج
متى تستعيد الأرض ثوب جمالها فتصبح في أثوابها تتبرج
وعمر قصته طويلة، وعمر درسٌ لكل مسئول يريد أن يلقى الله، وقد عدل في رعيته، وعمر شرفٌ للأمة.
يقول مايكل هارف -وهو أمريكي لماحٌ ذكي- في كتابه الأوائل أو العظماء المائة: إن الواحد والخمسين هو عمر بن الخطاب، وأنا أنقل من كتابه في صفحة (١٦٤) يقول: إنما مآثر عمر مؤثرة حقاً، فقد كانت شخصية رئيسية في انتشار الإسلام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدون فتوحاته السريعة من المشكوك به أن ينتشر الإسلام بهذا الشكل الذي هو عليه الآن، ثم أتى هذا الكاتب بعدائه المرير، يقول: سوف يلومني الناس، ويقصد: الأمريكان أرغم الله أنوفهم، يلومونه أنه جعله العظيم الواحد والخمسين، وهو عظيم على رغم أنوفهم جميعاً شاءوا أم أبوا؛ لأنه من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وسوف تبقى عظمته على رأي الموافق والمخالف.
يقول ابن عوف رضي الله عنه وأرضاه: [[قال لي عمر في ليلة من الليالي! انطلق معي يا عبد الرحمن -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم- قال: فانطلقت معه، فاقترب من خيمة، فسمع بكاء طفل وأمه في المخاض في الولادة، فلما وضعته بكى الطفل، فاقترب عمر، فقال: يا أمة الله! من أنتِ؟ قالت: أنا امرأة من المسلمين، الله حسيب عمر ما جعل لنا نفقة، فبكى عمر حتى جلس، ثم قال: يـ ابن عوف! إلى بيت المال، قال: فذهبت معه؛ فحمل شحماً وبراً وزبيباً على كتفه، قلت: يا أمير المؤمنين! أنا أحمل عنك، قال: لا.
أنت لا تحمل عني أوزاري يوم القيامة، قال: ثم ذهب وذهبت معه، فدخل طرف الخيمة، وصنع عشاءً للمرأة ولصبيها، وأخذ يوقد النار, وكان الدخان يتخلل من بين لحيته الكثة، فقدم الطعام، فقالت المرأة: والله إنك خير من عمر بن الخطاب]] وهو عمر بشحمه ولحمه، وهو عمر بإيمانه وصموده، وهو عمر بعظمته وجلالته وقداسته في الإسلام.
بكاء الطفل أسهر مقلتيكا ينادي حسرة يشكو إليكا
سهرت لجوعه وبكيت خوفاً من الديان بل خوفاً عليكا
يقول الشاعر: أنت تبكي خوفاً من الديان، لكنَّ بكاءك في الحقيقة خوفاً على نفسك من يومٍ يخسر فيه الظالمون، ويتردى فيه الطغاة، ويخسر ويندم فيه المستبدون ولا يبقى إلا العدول.
وقال: [[أسلم مولى عمر: دعاني عمر ليلة, قال: هيا انطلق بنا يا أسلم؟ قال: فانطلقت معه إلى امرأة في خيمة -عام الرمادة- وإذا هي قد نصبت قدراً ليس فيه إلا الماء على النار تريد أن تلهي أطفالها حتى يناموا.
قال عمر: يا أمة الله! ما هذا القدر؟ قالت: - وهي لا تعرف أنه عمر - ماء في القدر، قال: أما لكم طعام؟ قالت: لا.
ليس لنا طعام، قال: فما هذا الماء؟ قالت: ألهي أطفالي حتى يناموا.
فذرفت عينا عمر، ثم رجع إلى بيت المال؛ فأخذ شيئاً من طعام، وفرض لهم نفقة، وأعطاهم العشاء بعد أن أصلحه، ثم عاد فصلى بالناس صلاة الفجر، قال: فما سمعنا ماذا يقول من كثرة بكائه]] وهذا مصداق قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:٤١].
الذين إن مكناهم وسلَّمناهم مقاليد الأمور عاشوا هموم وأحزان ودموع الأمة.
الذين إن مكناهم في الأرض قاموا بالعدل، فرعوا الضعيف والمسكين، وأطعموا الجائع.
الذين إن مكناهم في الأرض، سهروا من أجل راحة الشعوب، ومن أجل بطون الشعوب، ومن أجل دموع الشعوب، ومن أجل فلذات قلوب الشعوب، ومن أجل أكباد الشعوب.
الذين إن مكناهم في الأرض، حملوا لا إله إلا الله {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:٢٦].
وهذا ميزان الله في الأرض أنزله على محمد عليه الصلاة والسلام.
يقول الأستاذ الأديب علي الطنطاوي شكر الله سعيه في مقالة له مبكية بعنوان (نحن المسلمين) يقول: " اسألوا كل سماءٍ في السماء عنا, واسألوا كل أرض في الأرض عنا، من الذي نشر العدل؟
من الذي أعلن مبادئه على المنائر كل يوم خمس مرات؟
من الذي صلى على ضفاف دجلة والفرات؟ من الذي فتح السند والهند بلا إله إلا الله؟
من الذي كتب على الأرض بدمه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥]؟
سيقول المجد: نحن المسلمين، وهي مقالةٌ يجدر بكم أن تعودوا إليها، هي من مآثرنا، ولا يعرف التاريخ إلا نحن، ونحن الذين تنزلت علينا آيات الله، ونحن الذين انطلقت من بلادهم كتائب الحق.
أما عملاء الوثنية، أما أعداء الله، أما شراذمة البشر فلا يجوز لهم أن يتصدروا لقيادة العالم، ولا أن يجلسوا على منبر التاريخ ".
يقول أبو العلاء المعري:
إذا عير الطائي بالبخل مادرٌ وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت كسيفة وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
يقول محمد إقبال في قصيدة له: يا رب! أي أمة غير أمتي العربية -يقولها بلغته: لكن سوف تسمعون ترجمتها شعراً- يقول: يا رب! أي أمة غير أمتي العربية يوم سجدت لك على الصحراء ثم رفعت اسمك على النجوم؟!
أي أمةٍ ينبغي أن تصدر وأن توقر وأن تقدس؟!
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدَّر الأقدارا
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا