الحمد لله القائل:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}[الإسراء:٢٣ - ٢٤] والصلاة والسلام على رسول الله، الذي بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: إن من أعظم المعاصي التي عُصي الله بها في الأرض قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين؛ ولذلك توعد الله عليهما بالعذاب الأليم للعاق والقاطع، وهي معصية فظيعة، وجريمة شنيعة، تقشعر لها الأبدان، ويندى لها الجبينُ، أنكرها حتى الجاهليون، واليهود والنصارى في شرائعهم؛ ولذلك يقشعر جلد المؤمن يوم يرى الابن كلما شب وقوي، وكلما تعمر؛ تغمط حق والديه، يوم أذهبا العمر والشباب وزهرة الحياة في تربية هذا الابن، سهرا لينام، وجاعا ليشبع، وتعبا ليرتاح، فلما كبر هو وضعفا هما، ودنيا من القبر وأصبحا منه قاب قوسين، أو أدنى؛ أنكر جميلهما وقابلهما بالغلظة، وجحد حقيهما، وجعلهما في مكان من الذلة والصغار لا يعلمه إلا الله؛ لذلك قرن الله حقَّه بحقهما، وجعل من لوازم العبودية برَّ الوالدين وصلةَ الرحم، يقول جل ذكره:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}[الإسراء:٢٣] قضاؤه وأمره وإيجابه سُبحَانَهُ وَتَعَالى ألا يعبد إلا هو، ومِنْ عبادته تبارك وتعالى: بر الوالدين وصلة الأب والأم وصلة الرحم.
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ}[الإسراء:٢٣] وانظر إلى هذه الصورة العجيبة، التي صورها القرآن: صورة الأب وهو محدودب الظهر، قليل الصبر، شاب رأسه وشابت لحيته، وصورة الأم وهي جعداء الشعر، شمطاء الرأس، قد دنت من القبر، وأصبحت تتلهب على شبابها وفتوتها وصباها الذي أنفقته في تربية هذا الابن؛ فلما ترعرع وقوي ظهره واشتد ساعده؛ كان نكالاً وغضباً ونكداً على والديه:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الإسراء:٢٣] حتى كلمة أفٍّ من سمح لك؟ ومن عفا عنك أن تقول لهما أف؟!! فقل لي بالله أيهما أعظم: كلمة أف، أم الذين جحدوا حقوقَ الوالدين، ولعنوا الوالدين، وعقوهما وقاطعوهما، وجعلوا جزاءهما السب والشتم والغلظة والنكال والقطيعة؛ حتى وجد في المجتمع من يعيش في الفلل الزاهية البهية، وفي الشقق الضخمة، ويركب المراكب الوطية، ويأكل الموائد الشهية، ووالداه في فقر مدقع، وفي حاجة ملحة، وفي ضنك لا يعلمه إلا الله.
أي قلوب هذه القلوب؟! وأي أرواح هذه الأرواح؟!
ولقد بكت العرب في جاهليتها وفي إسلامها العقوق، وتوجعت له، وتظلمت وتبرمت، واشتكت إلى بارئها منه.