للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[البكاء من خشية الله]

وأما الرجل الرابع: فهو رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، وقوله: (خالياً) فمعناه: الإخلاص.

قال ابن تيمية في المجلد الثالث والعشرين: هؤلاء السبعة بلغوا أصول العبادات، أو أسس أصول العبادات، ثم ذكر أن رجلاً من العلماء ألف كتاباً اسمه اللمعة في السبعة، وتكلم عن الحديث، وقال: إن (خالياً) في الحديث معناه: الإخلاص، فإن بعض الناس قد يتباكى عند الناس، ولكن إذا خلا لا يبكي.

ولذلك يقول أهل العلم: احذروا النفاق والرياء في ثلاثة مواطن: عندما تذكر الله أمام الناس، وعندما تبكي أمام الناس، فإنها فتنه لكل مفتون، وعندما تتصدق أمام الناس.

وقالوا عن الأوزاعي -كما ذكر ذلك ابن كثير -: أنه كان إذا خلا بكى حتى يرحمه جيرانه، فإذا خالط الناس ما رئي ذلك منه.

وهذا لأنه يخاف على نفسه، ولكن بعض الناس يغلبه البكاء لخشيته وتقواه، فلا يهمه هذا لأنه مخلص، لكن قال في الحديث: خالياً؛ لأنه أبعد عن الشبهة وأبعد عن الرياء والسمعة.

يقول ابن القيم في كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين: قال تقي الدين بن شقير: خرجت يوماً من الأيام وراء شيخ الإسلام ابن تيمية، فمر شيخ الإسلام في طريق حيث أراه ولا يراني، فانتهى إلى مكان فرأيته رفع طرفه إلى السماء، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثم بكى، ثم قال:

وأخرج عنك من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خالياً

فهذا من الذين ذكروا الله وهم في خلوة.

وذكر الله لا يلزم أن يكون تسبيحاً وتكبيراً وتحميداً في الخلوة، لكن يقول أهل العلم: من رأى مبتلى فدمعت عيناه، فهو من الذاكرين لله؛ لأن بعض الناس إذا رأى المبتلين دمعت عيناه، إما أن ترى مبتلى قصت يداه أو رجلاه، أو ذهب جمال وجهه، أو فقئت عيناه، أو أصابه في أولاده كارثة، أو فقد وعيه وعقله، فهو يمضي هكذا بلا عقل، أو أتاه مرض عضال عطل حواسه؛ فتدمع العين لهذه الرؤيا، فيكون من ذكر الله، أو ترى آيات الله في الكون، يقول ابن الجوزي: مررت حاجاً فلما بلغت جبال العلا -وهي قريبة من تبوك - قال: فلما رأيت جبال العلا دمعت عيناي والله.

وهذا لأن المؤمن قد يتذكر من رؤية الجبال أو السهول أو الأودية أو الأشجار، آيات الله عز وجل، فتدمع عيناه فيكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

وكذلك قد تدمع العين في خلوة كأن يتذكر ذنوبه وخطاياه، أو يتذكر أحبابه وأقاربه الذين سبقوه، أو يتذكر بعض الأمور التي حصلت له، فيكون من الذاكرين الله عز وجل.

إذا علم هذا؛ فإن أهل العلم يقولون: يكفي مرة واحدة في العمر أن تبكي خالياً، فتكون من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأحسن ما يذكر الله عز وجل في جوف الليل الغابر، أو في آخره.

<<  <  ج:
ص:  >  >>