[بعض الآداب في مخاطبة الوالد والقيام له]
يبدأ الآن يقول: الأمور التي لا ينبغي أن يعامل الوالدين بها، فهذا يخلي، ثم أتى بالتحلية: ما يجب من البر؟ قالوا: من بر الوالدين أن تدعوه بكنيته، أن تقول: يا أبا فلان، ولو كنت أنت ولده، وإما أن تقول: يا أبي، يا والدي، يا أبا محمد، يا أبا علي.
وكان سالم بن عبد الله ينادي أباه كما في الأدب المفرد يا أبا عبد الرحمن! وهذه كنية.
أكْنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من خلقي إني وجدت ملاك الشيمة الأدب
فالكنية واردة، ومنها يقولون: أن إذا نزل أن تأخذ بركابه، لكن الآن ألا تركب في السيارة حتى يركب، وأنت تتحرى حتى يركب، وإذا دخل البيت تنتظر حتى يدخل، وإذا دخلت معه تنتظر حتى يجلس، وإذا جاء أن تقوم له وتتلقاه عند الباب بالترحاب وبالمعانقة، ومن حقوقه أيضاً أن تدعو له بظهر الغيب، وأن تستغفر له، وأن تعلن خدمته دائماً وأبداً، وألا تتعكر أو لا تتكدر مما يكلفك به إذا كان في طاعة الله عز وجل، وهذا يسمى قيام الولد للوالد.
وبالمناسبة لا بأس بقيام الولد للوالد، ففي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يزور فاطمة فإذا جاءها ودخل بيتها قامت إليه وقبلته وأجلسته مكانها، فإذا زارته قام إليها وقبلها وأجلسها مكانه، انظر إلى لطفه عليه الصلاة والسلام.
وكان أحد العلماء جالساً؛ فدخل عالم آخر؛ فقام العالم ليستقبل ذاك، قال: لا تقم -ينهاه عن القيام- قال العالم:
قيامي والإله إليك حق وترك الحق ما لا يستقيم
وهل رجلٌ له لب وعقل يراك تجي إليه ولا يقوم
ولذلك القيام ثلاثة أقسام: قيام إليه، وقيام له، وقيام عليه، فالقيام عليه: منهي عنه، وهو أن يجلس رجل فيقوم عليه الناس على رأسه، فهذا يقول فيه عليه الصلاة والسلام: {كدتم أن تفعلوا كما فعل أهل فارس بملوكهم يقومون على رءوسهم} وقيام له: أن إذا دخل زائر تقوم له ولا بأس بذلك في وقت الحاجة، كأن يكون عالماً أو وجيهاً أو كبير سنٍّ، أما إذا كان يعذرك كأن يكون زميلاً أو ابناً أو أخاً، فلا بأس بعدم القيام.
وقيام إليه: قيام لتتلقاه عند الباب كأن يكون ضيفاً فلا بأس به، قال عليه الصلاة والسلام للأنصار لما أتى سعد بن معاذ: {قوموا إلي سيدكم} وزادوا: فأنزلوه، فمن العلماء من قال: العلة أنهم ينزلونه، ومنهم من قال: لا.
القيام من أجل احترامه وتقديره، لما قال عليه الصلاة والسلام: {قوموا إلى سيدكم}.
وسعد بن معاذ يحق له أن يقال له سيد، فهو من السادات الكبار في الإسلام، توفي وعمره اثنتان وثلاثون سنة، وفي رواية سبعٌ وثلاثون سنة، ولما توفي بآثار الجرح، قال كما قال الذهبي في أعلام النبلاء، قال: فبكى أبو بكر وقال: " واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد! ".
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية موت شهم يموت بموته بشر كثير
سعد الذي اهتز له عرش الرحمن، حتى قال بعض العلماء: اقتربت رواية اهتزاز العرش من درجة التواتر.
ثم قال البخاري: باب إجابة دعاء من بر والديه، نحن نتخطى هذا الحديث؛ لأنه ورد قبل خمسة دروس، وهو في الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة ونأتي إلى الحديث الذي يليه؛ لأن البخاري يكرر الحديث، كرر حديثاً واحداً سبعاً وثلاثين مرة.
يقول أبو الحسن الندوي، العالم الهندي، الداعية الكبير، قال: وللبخاري إشراقات في تكرير أحاديثه؛ فكأنه يفتح جبهة في الرد على الخصوم، أو يروق معنى من المعاني، فهو كما قال الأول:
يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظرا
كرر العلم يا كريم المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
قالوا تكرر قلت أحلى علمٌ من الأرواح أغلى
فإذا ذكرت محمداً قال الملا أهلاً وسهلا
فهو لا يكرر إلا الميراث والبضاعة؛ لترسخ في القلوب، ويتعلمها ويتفقهها من لا يتفقهها.