للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[توبة الطفيل بن عمرو الدوسي]

أتى الطفيل بن عمرو الدوسي إلى مكة، وكان شاعراً مجيداً، سمع بالرسول صلى الله عليه وسلم، فدخل الحرم وشياطين الإنس عند أبواب الحرم؛ لأن للجن شياطين وللإنس شياطين -يقول أحد الصالحين: شيطان الجن تستعيذ منه فلا يأتيك، لكن شيطان الإنس يطرق عليك الجرس وتفتح الباب وتدخله، وتجلسه على الفراش وتصب له قهوة ويؤذيك في دارك، ولذلك أمرنا بالاستعاذة من شيطان الجن والإنس- أتت قريش فوزعوا بعض الشياطين من الإنس وقالوا: إذا أتى رجل من العرب فصدوه عن محمد، فأتى الطفيل الدوسي وهو زهراني من بلاد زهران، فوصل إلى الحرم ونزل من على ناقته وتلقوه عند الباب من أين؟ قال: من دوس، ماذا تريد؟ قال: الذي يدعي هنا أنه نبي، قالوا: إنه شاعر، ساحر، كاهن، إياك! لا تقرب منه، فما زالوا يلقون عليه محاضراتٍ وخطباً حتى أخذ القطن من راحلته فوضعها في أذنه -انظر إلى التخويف والإشاعات الباطلة، والاغراضات والحرب المعنوية الباردة- فنزل فأتى الحرم، فقال: كنت أنظر إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا أسمع كلامه، لأنه مسدود الأذنين، لكن إذا أراد الله بشيء خيراً تممه، قال: أنظر إليه وأسمعه يتمتم لكن ما أدري ماذا يقول، ثم عدت إلى نفسي وقلت: عجباً أنا شاعر من شعراء العرب -وهو صحيح من شعراء العرب- وأنا أعرف جزل الكلام من هزله، وأعرف فصيحه من رثه، فلماذا لا أنزع القطن وأسمع؛ فإن أعجبني شيء وإلا تركت -أراد الله أن يهديه- فنزع القطن، وهذه بداية الاستجابة، واقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم يتلو آيات، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:٣٨ - ٤٧] فقام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.

يقول سيد قطب: القرآن يأتي على القلب حتى يطوقه من جميع النوافذ فما يستطيع القلب أن يفر.

ويروي سيد قطب قصة في أول هدايته، وسيد قطب درس في كلورادو في مدينة دنفر، وكان معجباً بالغربيين، وقرأ ثقافاتهم، ووصل إلى مصر بعدما كان مثقفاً متطوراً غربياً، وهذه القصة ذكرها في تفسير سورة النجم في المجلد السادس، قال: كنا أنا ورفقة لي في القاهرة بعد صلاة العشاء وعندنا راديو، ففتحنا الراديو نستمع إلى الأخبار -أول الهداية من الله عز وجل قد تكون بمقالة، بمحاضرة، بنظرة، ببكاء، بجنازة، بصوت من راديو، بمشهد تقرؤه أو تطالعه- قال: فاستمعنا إلى صوت الراديو ومعي الزملاء، فارتفع صوت راديو الجيران، فإذا مقرئ حسن الصوت يقرأ سورة النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:١ - ٥] قال: فأما أنا فسافرت بقلبي في رحلة مع الرسول عليه الصلاة والسلام -الرجل أديب يكتب بقلمه ما لا يستطيع الإنسان أن يرسمه بيده، قلمه سحر حلال- قال: فسافرت مع الرسول عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء والمعراج، وتركت جثماني مع زملائي- بعض المقرئين يهزك حتى يذكرك بقيام الساعة- قال: حتى وصل إلى قوله تعالى: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} [النجم:٥٧ - ٥٩] قال: فانهديت باكياً حتى يقول في الظلال: -ولكم العودة إليه- قال: والله ما استطعت أن أتحكم في عضلاتي، أصبح يهتز كله، قال: وعلمت أن هذا القرآن يؤثر في القلوب مالا يؤثر فيها شيء آخر أبداً، ثم أعلن هدايته وتوبته وعاد إلى الله، فأصبح قلماً من أقلام الحق، وأصبح شهيداً من شهداء الإسلام إن شاء الله، وهنا قصيدة قيلت فيه، وسبب هذه القصيدة أنه لما أتى يشنق في المشنقة ضحك، فقال له الجلادون: لماذا تضحك؟ قال: أضحك من حلم الله على هؤلاء ومن تجرئهم على الله، فيقول أحد شعراء مصر:

يا شهيداً رفع الله به جبهة الحق على طول المدى

سوف تبقى في الحنايا علماً قائداً للجيل رمزاً للفدا

ما بكينا أنت قد علمتنا بسمة المؤمن في وجه الردى

يقال له في آخر الأيام: اكتب اعتذاراً إلى أحد الطغاة أنك تنازلت عن مبادئك لعله يعفو عنك، قال: والله لا تكتب يدي حرفاً له، إن كنت قتلت بالباطل فأنا أكبر من أن استرحم الباطل، وإن كنت أقتل بحق فأنا أصغر من أن أعترض على الحق، فقتل {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:١٦٩ - ١٧٠].

الطفيل أعلن إسلامه، وعاد إلى دوس فدعاهم إلى الله فأعرضوا، فأتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: ادع على دوس سبحان الله! لو كان الواحد منا أتى ببعض الجزئيات التي وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم لدعا على الناس جميعاً، تصور أن رجلاً يحدث جماعة في مسجد ويختصم معهم فيدعو عليهم، أو يمنعونه من الكلمة، أو يحرمونه من شيء فيجعلهم أعداءً ألداء، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يضرب ويرمى ويخرج من دياره، وتضرب بناته، ويؤخذ ماله ويباع عقاره، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} حتى يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى له من فوق سبع سماوات: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] ما هذا التحمل والصبر والحكمة والحلم والأناة؟! يقول سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] ويقول له عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩].

دعاهم الطفيل وهو من تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعرضوا عنه فقال: {يا رسول الله! ادع على دوس، فشا فيهم الزنا وأكلوا الربا، فرفع يديه واستقبل القبلة، فقال الطفيل: هلكت دوس فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم أهد دوساً وأت بهم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: اذهب إليهم، قال: اجعل لي علامة -أي: بينة وكرامة من الكرامات يصدقونه- قال: اللهم اجعل له علامة -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- فأتى نور في جبينه يضيء في الليل مسافات، قال: يا رسول الله! أخشى أن يقولوا: هذه مُثْلَة، فدعا صلى الله عليه وسلم أن تتحول، فتحولت إلى العصا} فكان يقول بالسوط هكذا على جبال زهران فتضيء كلها بنور الواحد الأحد، دخل عليهم فأسلموا جميعاً ودخلوا في دين الله أفواجاً.

فهم المصلحون ببركات ذاك الذي في مكة:

المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء

صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>