[لقاء مع فضيلة الشيخ: ابن باز]
لقاءات مع أهل العلم: السلام على سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: ربما قال بعضكم: الخبر ليس بجديد؛ لأننا كلنا نعرف الشيخ عبد العزيز بن باز، وماذا سوف تخبرنا بالعَلَم؟ والعَلَم لا يُعَرَّف.
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قال تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
الشيخ عبد العزيز مشهور، لكن في سيرته جزئيات لا يعرفها الناس.
- ترجمة ذاتية للشيخ عبد العزيز بن باز:
المقابل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أيها الإخوة! نحن الآن في حضرة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، في لقاء نستطيع أن نسميه: لقاء السيرة الذاتية للشيخ عبد العزيز بن باز مع عرض بعض الأسئلة حول قضية العلم والعلماء والدعوة والدعاء.
وفي البداية: نرحب بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ونشكر له هذا الوقت الذي اقتطعه من وقته الثمين، فمرحباً بك شيخنا عبد العزيز.
الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.
المقابل: نحن -شيخنا الفاضل- سنبدأ هذه الأسئلة بما يشبه الترجمة عن حياة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فنرجو من الشيخ أن يقدم نفسه للأخ المستمع.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أمَّا بَعْد:
فقد كتبت في هذا شيئاً ليعرف القراء حقيقة ترجمتي مُوَصَّلَةً, وهي موجودة عند كثير من الإخوان، وهي أيضاً موجودة في مجلدي الأول من الفتاوى والمقالات التي تم جمعها وطبعها أخيراً، وقد صدر الجزء الأول منها والحمد لله، ومن ذلك أولاً: أني ولدت في الثاني عشر من ذي الحجة عام ١٣٣٠هـ، ونشأت والحمد لله يتيماً في حضانة والدتي رحمة الله عليها، وكان والدي قد توفي في ذي القعدة من عام ٣٣هـ، وأنا في آواخر السنة الثالثة من عمري، ودرست القرآن وحفظته قبل البلوغ، وكانت دراستي على الشيخ الكريم رحمة الله عليه عبد الله بن فريد، وكانت له مدرسة في شمال مسجد الشيخ عبد الله رحمه الله، المسمى أخيراً مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه في بلد الرياض.
ثم شغلت بطلب العلم على المشايخ في الرياض، وأول من قرأت عليه شيخنا العلامة قاضي الرياض الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليهم جميعاً، وكان ذلك في حدود السنة الرابعة والأربعين والخامسة والأربعين إلى أن تعينت قاضياً في الخرج في عام ١٣٥٧هـ.
والشيخ وضع له القبول في الأرض، والقبول ليس بيد أحد من الناس بل هو بيد الواحد الأحد، فإنه إذا أحب عبداً جعل الناس يحبونه، وإذا أبغض عبداً جعل القلوب تبغضه، فالحب هذا لا يصطنع، ولا يأتي بالحديد والسكاكين ولا بالهراوات، بل الحب موهبة وعطية من الله عز وجل.
وفي الصحيح يقول البخاري: باب المقة من الله، أي: الحب من الله، {إن الله إذا أحب عبداً قال لجبريل: إني أحب فلاناً فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض, وإذا أبغض الله عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغض في الأرض} وفي بعض الروايات: {حتى يشربون للمحبوب مع الماء البارد حبه، ويشربون للمبغوض مع الماء البارد بغضه}.
ولذلك تجد بعض الناس بغضتهم القلوب بأعمالهم في الخفاء، وبعض الناس أحبتهم القلوب ولو أنهم لم يقدموا للناس شيئاً، ولكن بأعمالهم في الخفاء.
الشيخ عبد العزيز جمع الله له أموراً منها: التقوى، رجل أول ما فيه أنه طلب العلم لوجه الله، هذا ما نحسبه والله حسيبه، ثم فقد البصر، ولكن لم يفقد البصيرة، عمي وعمره تسع عشرة سنة.
ثم يقول: وقرأت على الشيخ صالح ما جرت العادة أن يقرأه الطالب في ذاك الزمان من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه: كـ الثلاثة الأصول، وكتاب التوحيد وكشف الشبهات، وقرأت عليه أيضاً في عمدة الحديث للشيخ عبد الغني المقدسي، ولا أذكر الآن هل قرأت عليه العقيدة الواسطية أم لا.
ثم قرأت على فضيلة شيخنا العلامة الكبير الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، ولازمته كثيراً نحواً من عشر سنين أو أكثر، وقرأت عليه جميع العلوم الدينية التي يقرأها الطلبة في زماني في ذلك الوقت في الفقه والحديث والنحو, وسمعت عليه كتباً كثيرة من الكتب الستة ومن غيرها رحمة الله عليه، وكانت مجالسه في المسجد وفي بيته عامرة بالعلم -رحمه الله- وكان يجلس بعد صلاة الفجر في المسجد إلى طلوع الشمس يقرأ عليه الإخوان في بلوغ المرام، وفي النحو، وفي زاد المستقنع مختصر المقنع وفي كتاب التوحيد بعض الأحيان، ثم يذهب رحمة الله عليه ويجلس في بيته إلى قرب الضحى، فيقرأ عليه في المختصرات والمطولات، إلى أن يشتد الضحى، ثم يجلس بعد الظهر فُيقرأ عليه في المختصرات والمطولات وأنا من جملة من يحضر ويقرأ ويشارك في استماع الدروس، وهكذا من بعد العصر إلى قرب الغروب، وكان يجلس بعد المغرب ويقرأ عليه الطلبة في الرحبية في علم الفرائض، وكنت ممن درس عليه الرحبية مرات رحمه الله، وأخذت عنه علم المواريث أنا وجملة من المشايخ الذين تولوا القضاء وغيرهم رحمة الله عليهم، وبارك الله في الأحياء منهم.
وكانت مجالسه عامرة بالعلم، والتوجيه إلى الخير، والنصح لله ولعباده، والإجابة عن أسئلة الطلبة، مع العناية بالدليل والترجيح، فجزاه الله عنا وعن العلم وأهله وعن جميع المسلمين أفضل الجزاء، وبارك في ذريته وجعلهم صالحين موفقين.
وقرأت عليه أيضاً في أصول الفقه، وفي مصطلح الحديث، وقرأت عليه جملة من كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من كتاب التوحيد وثلاثة الأصول والعقيدة الواسطية وكشف الشبهات وأصول الإيمان وفضل الإسلام، رحمه الله، وسمعت عليه كثيراً، ومن مؤلفات الشيخ أيضاً رحمه الله مثل مختصر السيرة النبوية، وسمعت عليه أيضاً الكتب الستة بقراءات كثير من الطلبة، وسمعت عليه جملة من مدارج السالكين للعلامة ابن القيم رحمه الله.
العجيب أنهم يقولون: إن الشيخ لا يعرف يكتب اسمه، مع هذا العلم الهائل من القرآن وكتب الحديث وكتب العلم التي في رأسه، كلها مناولة، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦] {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:١٩].
بعض الناس عيونه كالكشافات ولكن قلبه مظلم لا يبصر شيئاً، له عيون يرى ويبصر لكن يبصر الفاحشة والمعصية والجريمة، وأما النور فلا يبصره، وبعض الناس لا يملك بصراً ولكن يملك بصيرة.
فالشيخ عبد العزيز يملك بصيرة وقلباً {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:٣٧].
ابن أم مكتوم أعمى، والله يسميه أعمى في القرآن، يقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:١ - ٢] فيقول سيد قطب: لماذا يعبس في وجهه؟ لعل هذا الأعمى أن يكون منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء -الوحي- وبالفعل كان ابن أم مكتوم الفقير المسكين أعمى، ولكن استقبل نور السماء.
يأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقول: {يا رسول الله! أنا نائي الدار (بعيد الدار) وليس قائدٌ يلائمني، فهل تجد لي رخصة في الصلاة في البيت؟ فرخص له، فلما ولى دعاه -والحديث صحيح- قال: أتسمع (حي على الصلاة) (حي على الفلاح) قال: نعم.
قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة} فكان يأتي الأعمى إلى المسجد في البرد أو في السيل أو في الحر أو في الظلام بلا قائد -يتلمس في الظلمات ليجعل الله له نوراً يوم ينقطع النور من المجرمين- حتى يصل إلى المسجد.
فقل لي بالله: أين الشباب الذين فقدوا المساجد مع أن بيته بجوار المسجد ولا يعرف طريق المسجد، ولا يهتدي إليه؟! منحه الله قوة، وشباباً، ومالاً، وصحة، وسيارة، وكل ما تمنى، ثم يعرض عن منهج الله.
من خان حي على الفلاح خان حي على الكفاح
فهذا ابن أم مكتوم الأعمى لما سمع الجهاد.
قال: [[لبسوني السلاح، قالوا: أعذرك الله أنت أعمى، قال: والله لا أقعد, والله يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:٤١]]] فنفر وركز الراية في القادسية وهو أعمى فقتل مكانه فأصبح شهيداً، أليس هذا نور؟ أليس هو منارة تتلقى نور السماء.
الشيخ عبد العزيز عمي مبكراً، لكن بدأ يلتمس النور من الواحد الأحد، ابن عباس عمي في السبعين من عمره، عالم الأمة هذا العجيب الفطحل الذي يمور علمه مثل البحر بل أكثر, فالبحر الذي إذا طم وعم أقل من علم ابن عباس , كانت العلوم تتفجر منه، يجلس بعد الفجر وهو أعمى في آخر عمره، فيسأله أهل القرآن إلى ارتفاع الشمس، ثم يأتي أهل الحديث فيسألونه حتى يقرب الضحى، ثم يأتي أهل التفسير فيسألون إلى منتصف الضحى، ثم يأتي أهل اللغة، ثم يأتي أهل الشعر، يتفجر كالبحر، عمي فقال بيتين جميلين، يقول:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوجٍ وفي فمي صارم كالسيف مشهور
القلب حي، والعقل حي، ومعه نور المسجد ونور القرآن، وإذا ذهبت العيون فعلى العيون السلام، يقول الله عز وجل في صحيح البخاري وهو حديث قدسي: {إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} والحبيبتان: العينان، لكن بعض الناس عنده حبيبتان ولكن ليس عنده نور: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:١٧٩].
الشيخ عبد العزيز بن باز متواضع، تأخذه الطفلة فيقف معها، وهذه هي أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم، يوقفه الرجل في الشمس على متاعب الشيخ وعمره الآن ثمانون عاماً, ويقف وهو في باب السيارة رجل في السيارة ورجل في الأرض ويمسكه الرجل ويقص عليه قصته، والشيخ يصغي، وهو مرهق جداًَ من الأعمال والأشغال، أمور الأمة الإسلامية تدار عليه، فيصغي حتى يكون الرجل هو الذي يترك الشيخ فيركب الشيخ.
بعض الشباب يقصون على الشيخ قصصاً فما يرد الشيخ إلا بالدموع، يتأثر بأحوال العالم، يخبرونه عن أخبار أفغانستان والفلبين فيبكي.
وقته معمور بذكر الله عز وجل، في الصباح يتنفل ثم يلقي دروساً في الغالب، ثم يذهب إلى عمله فيعود في الثانية ظهراً، وهو مضياف، هو حاتمي العصر، ولن تجد بيته يخلو من الضيوف، وهذه شهادة أقولها للتاريخ، فهو من أكرم الناس، فإفطاره وغداؤه وعشاؤه مضيف وعلمه وماله وجاهه مبذول، وشفاعته للمسلمين فهو كما قال الأول:
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله
ومما يميز الشيخ عبد العزيز بن باز: الصبر، فإنه مثل الجمل وقد رأيته كثيراً في المحاضرة، لا يتحرك في الدرس أبداً، يبقى كأنه صخرة في مكانه، فإذا رد بشته أو تنحنح عرف الطلاب أنه قد انتهى الدرس.
ويجلس متأدباً لا يقاطع المتكلم مهما تكلم، فإذا انتهى المتكلم ولو من ساعتين، قام فعقب بأدب، ولذلك أحبته الطوائف والجماعات، والناس والمشارق، لا يجرح أبداً ولا يعرف الجرح، لسانه كالعسل، وهذه مواهب يجمعها الله لمن يشاء، وهذا تسديد من الله عز وجل، ومن ميزات الشيخ عبد العزيز بن باز: أنه محدث يعرف الأثر.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولوا العرفان
دائماً قال الله وقال رسوله، واستمع إليه في الفتوى، استمع إليه في (نور على الدرب) إذا أتى يفتي يقول: رواه أبو داود بسند جيد رواه مسلم رواه البخاري الحديث في الترمذي رواه الحاكم حفظ ونور، وهو يقيد المسائل بالدليل من محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا عارض كلام رجل الدليل ترك كلام أي رجل مهما كان لكلام محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك فتواه كما قال الأول:
إذا قالت حذامِ فصدقوها فإن القول ما قالت حذامِ
الآن العجوز تقول لابنها: لو تتعلم حتى تصبح مثل ابن باز.
رجال في أفريقيا أخبرنا بعض الشباب عنهم، بل حتى في أمريكا، إذا قلت لبعض الشباب: أفتى فيها ابن باز بكذا وكذا سكت، انتهى! بل بعض الجمعيات الإسلامية والمؤتمرات تُعقد فإذا عرضت فتوى الشيخ صوتوا عليها بالأغلبية، وهذا القبول من الواحد الأحد.
ومما يميز الشيخ عبد العزيز بن باز: سلامة الصدر، يقول من يقرب منه ومن يعرفه من طلابه والمشايخ والعلماء: ما رأينا أسلم صدراً للمسلمين منه، لا يحمل حقداً ولا حسداً ولا غشاً، ولا غلاً لأحد، وهذه هي أخلاق العلماء، ينام وليس في قلبه شيء، يخبره بعض الناس ببعض ما يقال عنه، فيقول: غفر الله لهم، اللهم اعف عنهم، سامحهم الله، وهل هذه إلا الحياة.
يقول أحد الصحابة: كنا جلوساً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فخرج علينا رجل، فقال عليه الصلاة والسلام: {ذاك من أهل الجنة ثلاثة أيام، قال بعض الصحابة: فذهبت معه إلى بيته فلما نمت عنده ثلاث ليال، وإذا صلاته كصلاتنا, وصيامه كصيامنا, وذكره كذكرنا، فسألته: ما بالك؟ فلقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك من أهل الجنة ثلاثاً، قال: لست بكثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن والله ما بت ليلة من الليالي وفي قلبي غشٌ أو حقد أو غل أو حسد على مسلم, قال ذاك الصحابي: تلك التي ما استطعنا لها، أو ما نطيقها} فهذه من مميزات هذا العالم.
وأنا أذكر بعض أبيات قيلت فيه، منها ما قاله عالم المغرب تقي الدين الهلالي الذي توفي قبل سنة رحمه الله وهو محدث كبير، يقول:
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل باز إنهم بالثناء وأحرى
وزهدك في الدنيا لو أن ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرى
وهذا صحيح فإن الشيخ لا يأتي عليه آخر الشهر إلا وهو مديون، هذا معلوم من سيرته واسألوا الكتب التي تكلمت عنه، مثل: (علماء ومفكرين عرفتهم) وقال المجذوب في قصيدة للشيخ عبد العزيز بن باز، يقول:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم
فلم أرَ بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي
اسم الشيخ ابن باز، والباز هو الصقر، يقول: الباز إذا صاد أدمى لكن أنت تصيد القلوب ولا تدميها.
وقلت في قصيدة بعض الأبيات اسمها البازية، لأنها مذكورة ولكن أذكر بعضها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
وفي آخرها:
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شُغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
وفيها:
سر يا أبي واترك الدنيا لعاشقها في ذمة الله فهو الحافظ الكافي
من ميزة الشيخ عبد العزيز بن باز: كثرة الذكر، يكلمك بالهاتف -وجرب أنت معه- وهو يسبح، يستمع المكالمة وهو يذكر الواحد الأحد.
ودعا داعٍ إذ نحن بـ الخيف من منى فهيَّج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائراً كان في صدري
الشيخ له وردان في اليوم، بعد صلاة الفجر -أقول لكم من باب الاقتداء لعل الله أن ينفع بذلك- فبعد الفجر بعد أن ينتهي من التسبيحات، يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة، لا يتركها مهما كان، وبعد العصر كذلك, ولا يتكلم حتى ينهيها، والشيخ يقوم قبل الفجر ليستأنف جلسته التي تعودها مع السحر مع الواحد الأحد يوم يتنزل في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا، فيقول: {هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟}.
ولذلك أنا رأيت ولاحظت إذا خرج الشيخ لصلاة الفجر يصلي بالناس عليه هالة من النور، وقد قالوا للحسن البصري: ما بال قوَّام الليل عليهم نور؟ قال: خلوا بالله فأكسبهم نوراً من نوره.
والشيخ عبد العزيز بن باز حِفظه عجيب في القرآن، يقول بعض الناس: ما أظنه يخطئ خطأ، يحفظ القرآن مثل الفاتحة، يبدأ بسورة الفاتحة، وبعد أيام وإذا هو في سورة الناس يسرده سرداً، ثم إذا جاء يستشهد ينتزع الآية من موضعها، ويستنبط لك استنباطاً عجيباً سهلاً ما سمع الناس بمثله.
والشيخ قريب من الطلاب ينشر علمه في كل مكان، ينشره في الطريق والشارع، وفي الهاتف والمكتب، وهذا هدي علماء السلف؛ لأن العالم في الإسلام لا يغلق على نفسه البيت ويقطر على المسلمين بالقطارة، ولا يجلس أحدهم تحت المكيف وينتظر أن يطرق عليه الناس، لا.
بل علماء أهل السنة في المساجد والشوارع والسكك والمكاتب يسألهم الناس، هذه بعض ذكرى لما التقينا بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.