للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[كلام الخطيب مع المأمومين]

المسألة الثالثة: كلام الخطيب مع المأمومين؛ فللخطيب أن يتكلم وله أن يرد وأن يجيب، ولذلك اشترط بعض أهل العلم؛ خاصة من المفكرين في العصر الحديث كـ أبي زهرة في كتاب الخطابة: أن يكون الخطيب سريع البديهة؛ لئلا يرتبك في الخطبة؛ وألا يتكلم مع أحد فيضيع الخطبة فإنه اشترط هذا الشرط، وهذا الشرط ليس وارداً عند أهل العلم، وإنما هو من باب الملح والطرف.

وقد دخل أعرابي والرسول عليه الصلاة والسلام يحدث أصحابه، وكان أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقارب ألف رجل، والرسول صلى الله عليه وسلم يواصل إسداء المعاني، ويواصل إعطاء الناس من القوة الروحية التي ما أعطاها الله بشراً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، فيأتي هذا من جهله ومن جفائه، ثم يقف وسط الناس فينظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: يا رسول الله! متى الساعة؟ فلم يقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه فيعيد الرجل سؤاله ماذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الجواب؟ إن قال: الساعة لا أدري بها؛ قطع على الناس حديثهم.

وإن قال: اجلس واسكت، كانت هذه من الفظاظة والغلظة التي برأه الله عنها فقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩]

وإن أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قطع حديثه الذي كان يتكلم فيه مع ألف رجل، وترك الموضوع الذي كان يتكلم عنه؛ لأجل أن يتكلم عن هذه القضية فسكت صلى الله عليه وسلم، وما كأنه سمع.

قال أبو هريرة: فقال بعضنا: سمع ما قال فكره ما قال.

وقال بعضنا: بل لم يسمع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما تلعثم ولا تغير ولا التفت، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من حديثه قال: أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله.

فخطأه في السؤال؛ لأن من جواب الحكيم أن يعرض عن سؤال ورد لا فائدة فيه لتفاهته وسخفه، وأن يأتي بجواب هو أملح وأصلح، كأن يقول: لم تسأل عن هذا؟ ولذلك يقول الله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:١٨٩] أي: كيف يبدو صغيراً ثم ينحني، ثم يبدو ضئيلاً ثم يكبر حتى يتضخم، ثم يعود كذلك؟ فما الفائدة من هذا السؤال؟! قال الله عز وجل: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:١٨٩].

أي لماذا لا تسألون عن فائدة الأهلة؟ فالجواب هو هذا الجواب.

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ماذا أعددت لها؟ -والشاهد سوف يأتي- قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكنني أحب الله ورسوله.

فقال: المرء يحشر مع من أحب}.

وقطع الرسول صلى الله عليه وسلم حديثه للرجل الأعرابي الذي دخل من نحو دار القضاء، فقال هذا الأعرابي: يا رسول الله! هلكت الأموال، وتقطعت السبل، وجاع العيال؛ فادع الله أن يسقينا.

هذا كلام في محله، وإن أخر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا فإنه لا يمكن أن يتأخر عن صلاة الجمعة، وهي مناسبة عبادة، وإن قال له: اجلس؛ جفاه كذلك، وإن تكلم في موضوع الاستسقاء فليس الحديث موضوع محاضرة تلقى على الناس؛ فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطبة مباشرة ورفع يديه وقال: {اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا}.

الوقت في الصيف والناس في شدة حرارة، حتى يقول أنس: والله ما في السماء من سحابة ولا قزعة، والشمس تتوهج في الصيف وقد هلك الناس، فلما قال عليه الصلاة والسلام هذا -وكان المسجد شماسياً، يرون ما خلفه- ثارت سحابة كالترس، فارتفعت هذه السحابة، قال أنس: والله لقد ثارت مثل الجبال.

وهو في الخطبة بعد أن استسقى صلى الله عليه وسلم ثارت كالجبال حتى غطت سماء المدينة، ثم نزل الغيث والرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر، فأخذ الماء يتحدر من السقف ويصب على جبينه الطاهر الذي كأنه البدر.

يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظرا

فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يتبسم وهو في خطبته من هذه المعجزة التي شهدها أكثر من ألف ونقلت إلينا بالتواتر فلعن الله الملحدين أنى يؤفكون!

وكان صلى الله عليه وسلم يخطب فدخل رجل اسمه سليك الغطفاني فلم يصلِّ، فقطع صلى الله عليه وسلم خطبته وقال: {أصليت؟} وهذا من الأدب؛ لاحتمال أنه قد صلى، ولذلك فأهل العلم يعتبرون الاحتمال حتى لا يكذب الصادق، ولذلك يقول سليمان عليه السلام للهدهد: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين.

ولم يقل: أكذبت أم أنت من الصادقين، وهذا من حسن الظن بالصاحب.

يقول ابن القيم عن قصة سليمان عليه السلام والهدهد في بدائع الفوائد: على المسلم ألا يستنكف من طلب العلم؛ فإن الهدهد عرض كلمة على سليمان وتواضع سليمان عليه السلام، حتى قال له بزعم وقوة: جئتك من سبأ بنبأ يقين، فما تكبر سليمان وما زها عليه السلام.

الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقامه فصلى ركعتين فهذه مسألة الكلام من الخطيب إلى المأموم ومن المأموم إلى الخطيب.

وقد مر معنا ولا بأس بإعادته مرة ثانية لحسنه.

أعد ذكر نعمان لنا إنَّ ذكره كما المسك ما كررته يتضوع

وقف عمر رضي الله عنه على المنبر يخطب الناس فقال: أيها الناس، اسمعوا وعوا.

فقام سلمان رضي الله عنه وقال: والله لا نسمع ولا نعي.

قال: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: ألبستنا ثوباً ثوباً، ولبست أنت ثوبين! لأن عمر كان يوزع الثياب التي كانت تأتيه من اليمن، وكان عمر رجلاً طوالاً جسيماً، فأعطى الصحابة ثوباً ثوباً، ولما لم يكفه هذه الثوب أخذ ثوب ابنه عبد الله بن عمر الذي هو حصته مع المسلمين؛ فقال: لا يرد عليك إلا ابن عمر، قم يا عبد الله، فقام عبد الله فرد على سلمان، فقال سلمان لما سمع

الجواب

الآن قل نسمع وأمر نطع.

فقال عمر: أرأيتم لو انحرفت عن الجادة ما كنتم فاعلين؟ فقام أعرابي من طرف المسجد وسل سيفه وقال: والله يا أمير المؤمنين، لو قلت كذا لقلنا بالسيوف هكذا، فتبسم عمر وقال: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من إذا قال كذا برأسه قالوا بالسيوف هكذا.

قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها

<<  <  ج:
ص:  >  >>