[المسألة الخامسة في التربية: تجنيب الشاب السب والشتم]
من أسس التربية للشباب المسلم: تجنيب الشاب السب والشتم، والتشهير والتجريح، لأن بعض المدارس تخرج من الشباب من هو مثل: القذيفة، يعبأ مثل الساعة الخراشية، ثم يطلق على الناس، فيهتر عليهم هتراً، أي أنه: يشحن بديناميت في قلبه من السب والشتم، فإذا وقف عند المنبر ينسى كل قضية ويبدأ يسب بعد أن يحمد الله، وقد فعلها فلان، وفعلت الطائفة الفلانية، وصنع وبدَّع، هذا أول خسارة له في الدعوة، لأن هذا استعلاء النفس، وهذا الرجل قد ركَّب على رأسه لافتة: السبَّاب والشتَّام.
لم يكن صلى الله عليه وسلم بذيئاً ولا فحاشاً، ولم يكن سباباً ولا مجرحاً، ولذلك جمع الله له قبائل العرب التي مثل قرون الثوم لا تجتمع أبداً، ولم يكن عنده مُلك، وما اجتمعوا على ملك من العرب أبداً، وكل قبيلة لها مملكة خاصة، كل قبيلة تؤسس حضارة لوحدها هي حضارة السيف والدم، وحضارة الهتك والسلب والنهب، فلما أتى عليه الصلاة والسلام وصفه الله فقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:٦٣].
بعد الإسلام والهجرة جلس الأنصار في مجلس، والأنصار كما تعرفون قبيلتان: الأوس والخزرج، كانت القبيلتان في الجاهلية تقتتلان قتالاً ضريعاً لم يسمع الناس بمثله، فلما أتى صلى الله عليه وسلم أصبحوا أنصاراً، وأُلغي هذا الاسم "الأوس والخزرج" إلا من النسب وأصبح مكانه "الأنصار"، ولكن الشيطان دخل وهم في المجتمع المسلم يستمعون القرآن في المسجد، فأتى يهودي اسمه ابن شاس فجلس بينهم، فقال للأنصار: كيف وقعت معركة بعاث بينكم؟ -يعني: الأوس والخزرج، ذكرهم تلك الأيام المريرة- فقالوا: وقعت كذا وكذا، فقال أوسي: نحن غلبناكم، قال خزرجي: لا.
نحن الذين انتصرنا، فقام أوسي يسب الخزرجي، وخزرجي يسب الأوسي، فقال رجل منهم: اللطيمة اللطيمة! موعدنا وإياكم الصحراء -يقول: تعالوا واخرجوا لنا في الصحراء- والوحي نازل والرسول صلى الله عليه وسلم في بيته والقرآن وجبريل صباحَ مساءَ، وانتهت الجاهلية، لكن انظر، وهذه يذكرها ابن جرير الطبري في تفسيره، في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:١٠٠ - ١٠١] وهؤلاء أهل الكتاب، فخرج الأوس والخزرج وقد صاح صائحهم: اللطيمة اللطيمة إلى الصحراء، عادوا إلى السيوف فاخترطوها من أغمادها.
إذا خرجت من الأغماد يوماً رأيت الهول والفتح المبينا
أخذوا السيوف من الأغماد وتوافوا في الصحراء -نسوا الآن وطارت من أذهانهم مسألة الإيمانيات- ووقف الأوس في جهة والخزرج في جهة، ووصل الخبر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فخرج خائفاً يجر إزاره ليدرك القوم، ووقف بين الصفين، ثم أخذ يذكرهم، ويدعوهم، ويتلو عليهم من آيات الله حتى سالت الدموع -وكانوا أسوداً من أسود الله، هم أهل بدر وأهل أحد وحنين - فوضعوا السيوف في الأرض وتعانقوا وتضاموا وارتفع البكاء، وهذه يوردها ابن جرير وأمثاله.
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
فقال الله بعد هذه الآية: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:١٠٣] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:١٠٥].
إذاً يا أيها الإخوة! إن من معالم تربية الشاب أن يُجنَّب السب، إذا سمعته يسب وينتقد عالماً فقل له: لا.
لا تقل هذا، فهو خطأ، وعلمه كيف يتأدب مع العلماء، وإذا سمعته ينال من داعية، فقل له: سامحك الله، هذا ليس بأسلوب.
وإذا سمعته يشهر بجيرانه وبإخوانه، فخذ على يديه.
إن من يتعود السب يصبح له نهمة، مثل المدمن على الخمر، لا يستقر باله حتى يشرب الخمر، ومثل المتعود على شيء من الأمور تصبح العادة له مثل العبادة.
فحذارِ حذارِ من هذا الأسلوب فإنه مقيت، وهذا لا يكسب العبد قلوباً، ولا تحبه القلوب ولا ترضاه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] {وليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء} {والرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، والله رفيق يحب الرفق}.