[حقيقة المتاع في الحياة الدنيا]
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:٣٦] تستقرون في الأرض وتتمتعون إلى زمن قليل، ووالله، إنه لزمن قصير، وإنه عيش بسيط سهل وإنما هو كلمح العين.
عاش نوح عليه السلام ألف سنة فلما أتته سكرات الموت قالوا له: كيف وجدت الحياة؟ قال: وجدت الحياة كأنها بيت له بابان دخلت من هذا وخرجت من هذا.
وقال علي وهو يبكي في ظلام الليل: [[يا دنيا يا دنية! طلقتك ثلاثاً, عمرك قصير, وسفرك طويل، وزادك حقير، آه من قلة الزاد, وبعد السفر، ولقاء الموت]].
فكل الدنيا ليست إلا لمحة، قال: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٢ - ١١٦].
وهذا المعتصم الخليفة العباسي عسكري وفارس من الدرجة الأولى, وهو الذي حطم الروم في عمورية بتسعين ألفاً:
تسعون ألفاً كأساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
أتته سكرات الموت في الأربعين فنزل من على سريره وقال: أموت اليوم؟ قالوا: تموت اليوم، ثبت شرعاً أنه يموت، وأجمع العلماء على أنه يموت، قال: والله، لو كنت أعلم أني أموت ما فعلت ما فعلت من الذنوب والخطايا.
يقول الإلبيري وهو يوصي ابنه:
أبا بكر دعوتك لو أجبتا إلى ما فيه حظك لو عقلتا
وقد قالها في مطلع قصيدة هي من أحسن القصائد, وأنا أقول: لو كان شيئاً ويوجب غير الكتاب والسنة على الناس لوجب على طلبة العلم والأخيار أن يحفظوا هذا القصيدة الزهدية, وهو يقول في أولها:
تفت فؤادك الأيام فتا وتنحت جسمك الساعات نحتا
فهو يوصي ابنه, وكان ابنه مسرفاً على نفسه في الشباب لا يحفظ الوقت, يجلس مع كل جليس, والحياة عنده أكل وشرب ولبس وغناء ومجون فقال له هذا في قصيدة مبكية, قالوا: إن ابنه لما قرأ القصيدة بكى وتاب:
تفت فؤادك الأيام فتا وتنحت جسمك الساعات نحتا
وتدعوك المنون دعاء صدق ألا يا صاح أنت أريد أنتا
إلى أن يقول:
ولا تقل الصبا فيه مجال وفكّر كم صبي قد دفنتا
إلى أن يقول:
إذا ما لم يفدك العلم نفعاًً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
فناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
ويقول في آخرها:
وقد أردفتها ستاً حساناً وكانت قبل ذا مائة وستا
مائة واثنا عشر بيتاً من أحسن ما قيل في الحكم والمواعظ!
وحفظها الملوك وتهادوها في الأقطار، وطنَّت بها الأمصار، وعمرت بها القصور والدور، واتعظ بها كثير من الناس وهي لـ أبي إسحاق الألبيري.
{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:٣٦] فالأرض متاع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أو إلى حين الموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:١٩ - ٢١].
فحين تقبض روحك -ولا عليك من العالم أن يتأخر بعدك أو يتقدم- قامت قيامتك.