للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الترهيب من كشف ستر الله على العباد]

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: {ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة} فإننا نعلم من قوله صلى الله عليه وسلم: {الله ستيرٌ يحب الستر} المروي في الترمذي، أي أنه: ستير سُبحَانَهُ وَتَعَالى يحب الستر، ويحب أن يستر على العباد وألا تكشف أمورهم ولا يفضح ما أسروه؛ لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى يحب أن يضع كنفه وستره على العباد.

وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {يا من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله ولو في عقر داره} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

وفي بعض الألفاظ: {تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره}.

قال ابن رجب: يقول أحد العلماء: " وجدت أناساً لم تكن لهم ذنوب ولا عيوب، فبحثوا عن عيوب الناس فأبدى الله عيوبهم للناس، وكان هناك أناس لهم عيوب وذنوب ستروا الناس فستر الله عيوبهم وذنوبهم ":

لا تضع من مكان قدر عظيم بالتجري على العظيم الكريم

فالعظيم العظيم يصغر قدراً بالتجري على العظيم العظيم

ويقول الشافعي:

إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى ودينك محفوظٌ وعرضك صيِّنُ

لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلك عورات وللناس ألسنُ

وعينك إن أبدت إليك معايباً لقوم فقل يا عين للناس أعينُ

يقول كعب بن زهير:

ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل

وهذا هو الذي يتكلم عن عيوب الناس وعن ذنوبهم، ويفضح تاريخهم، ويحب أن يشهر بهم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:١٩] قالوا: عذابهم في الدنيا: أن يشيع الله عنهم كل خبث، وعذابهم في الآخرة أن ينكل الله بهم جزاءً وفاقاً.

وعن ابن عمر عند الحاكم، وفي الموطأ مرسلاً قوله صلى الله عليه وسلم: {من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد -وفي لفظ: نقم عليه كتاب الله}.

قال أهل العلم: يجب على المسلم إذا ابتلي بشيء من الذنوب ولو من الكبائر أن يستتر بستر الله، ولا يذهب فيشهر بنفسه، بل يتوب ويقلع عن الذنب.

وقال الإمام مالك: " أرى ألا يرفع إلى السلطان ".

وقال أحمد: لا يرفع إلى السلطان؛ لأن السلاطين كثيراً منهم من يقيمون الحدود على الضعيف ويتركون الشريف.

فيرى الإمام أحمد ألا يرفع إليهم.

وعند أبي داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان قوله صلى الله عليه وسلم: {أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم} قال ابن القيم أي: في الحقوق وليس في الحدود، وهو الذي لا يعرف منه زلة، والمقصود هنا قوله عليه الصلاة والسلام: {ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة}.

إن على المسلم أن يستر المسلم، فلا يتتبع عورته، ومن ضمن ذلك: لا يجوز للمسلم أن يتسلق حائطاً ليرى أحداً إذا سمع عنه أنه يشرب الخمر، هل يشرب الخمر في عقر داره، ولا يصح له أن يتجسس عليه في بيته هل يستمع إلى الغناء أم لا حتى يرفع فيه، وليس له أن يدخل منزله ليرى هل فيه فواحش أو منكرات، وليس له إذا سمع أنه فَعل فِعلةً أن يرفعها إلى السلطان إلا من اشتهر بالفجور فأصبح فاجراً من الدرجة الأولى، فهذا يرفع، هذا هو الصحيح عند أهل العلم.

وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة: أن يبيت الرجل يستره ربه على ذنب، فيصبح يقول: يا فلان! فعلت كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا، فأصبح يكشف ستر الله عليه، وقد بات ربه يستره} ولذلك بعضهم يتمدح، إذا فعل أفاعيل سرد تاريخه على الناس، حتى بعضهم إذا سافر مثلاً إلى أوروبا أو إلى بعض المدن المتهتكة، فأتى يذكر ويقول: كنا نفعل كذا، وكنا نفعل كذا، وهذا من المجاهرة.

وبعضهم يقول ذلك بحسن نية بعد أن يتوب، وهذا خطأ، حتى إن بعضاً ممن يعظ الناس ويرشدهم يقول: أنا -وهو أنا- كنت أفعل وأفعل، وكأنه من الخلفاء الراشدين: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:٢١].

وهناك طرفة ما أدري هل وقعت أم لا؛ يقولون: أحد الناس قام في مسجد، وقال: يا أيها الناس! كلنا على خطأ، أنا -وهو أنا- والله ما أضمن لنفسي دخول الجنة! ومن أنت؟! من أهل بدر الذي اطلع الله عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!

قضية سرد القصص والحوادث التي مرت بالإنسان هي على خلاف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم الصحابة، ويكفي أن الإنسان يتوب ويقلع، أما أن يكون كلما وقف في موقف قال: كنت أسرق وأشرب الخمر وأفعل وأفعل، هذا خطأ، بل يتوب إلى الله عز وجل ويقلع، ولا يذكر لنا هذا فلسنا بحاجة إليه، وبعض الوعاظ يقول: إنها أمور تربوية، من أين تربوية؟! ولم يفعلها السلف الصالح، لا الصحابة ولا التابعون.

وورد في حديث ابن عمر الصحيح: {إن الله عز وجل يحاسب العبد يوم القيامة، فلما يقرره بذنوبه، يقول: أنا سترتها لك في الدنيا وأغفرها لك اليوم}.

ومن ستر المسلم: ألا تتحدث عما ستر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من الذنوب والخطايا، فإن الجزاء من جنس العمل، وكذلك من الستر ألا تذكر الفواحش التي تقع كالمتلذذ بها؛ لأن بعض الناس يذكر ذلك تلذذاً، فيذكر فواحش المجتمع، ويذكر ما حدث من المواقف، ويذكر ما رأى وشاهد من أفلامٍ خليعة، ومن أشرطة جنس، ومن أماكنٍ اطلع عليها مثلاً، ويبدي صوراً خليعة، ويشيعها في المجالس بتشاؤم عجيب، وبروح متفطرة، وبنظرة سوداوية إلى هذا المجتمع وهذه الخليقة، وهذا خلاف نهج الرسول عليه الصلاة والسلام.

يقول في صحيح مسلم: {من قال: هلك الناس، فهو أهلكهم} وضبطت أهْلَكَهُم، وقيل: أهلكُهم، ومعنى: (أهلكُهم) أشدهم هلاكاً؛ لأنه أعجب بنفسه، وإن كان أهلكَهم بصيغة الفعل الماضي فمعناه: هو الذي أهلكهم بهذا الكلام؛ لأن الناس إذا كثر فيهم إشاعة الفاحشة تساهلوا بالمعاصي.

الشاب إذا سمع أن عشرين قصة عن الزنا قد وقعت، هان الزنا عنده؛ ولذلك يجب على الإنسان ألا يشيع الفاحشة في الذين آمنوا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>