للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الحوار بين سعيد بن جبير وبين الحجاج]

وهذا الحوار هو بين أحد الناس المعرضين عن الله وهو الحجاج بن يوسف، الحجاج هو الحجاج والشمس هي الشمس:

بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر

قلن: تعرفن الفتى قلن: نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر

ليس بقمر، لكنه قمر في الظلم والانحراف وسفك الدماء، الحجاج بن يوسف هذا له قصص لا بأس أن نورد بعضها، يقول طاوس بن كيسان عالم اليمن: كنت جالساً عند مقام إبراهيم عليه السلام في الحرم، وبينما صليت ركعتين عند المقام، جلست انتظر وأنظر إلى الناس يطوفون، وإذا بجلبة السلاح، وإذا بوقع الرماح والسيوف، فالتفت فإذا هو الحجاج وحرسه قد دخلوا الحرم - الحجاج الذي قتل مائة ألف نفس، يقولون عنه: أنه رئي بعد مامات في المنام أن الله قتله بكل نفس قتلة واحدة، إلا بـ سعيد بن جبير العالم العابد الزاهد قتله سبعين مرة- قال: فلما أتى الحجاج جلس، وإذا بأعرابي أتى من اليمن -يحمل إيماناً وعقيدة- يطوف، فنشبت حربة لأحد حراس الحجاج في ثوب هذا الرجل اليماني، فوقعت على الحجاج فقبضها الحجاج وقال للرجل: من أين أنت؟

قال: من أهل اليمن.

قال: كيف تركت أخي؟

قال: من أخوك؟ -يقول للحجاج: من أخوك؟ -

قال: أخي محمد بن يوسف.

ومحمد بن يوسف ظالم مثل الحجاج وكان والياً على اليمن.

قال: تركته سميناً بطيناً.

قال: ما سألتك عن صحته لكن سألتك عن عدله؟

قال: تركته غشوماً ظلوماً.

قال: أما تعرف أنه أخي.

قال: يا حجاج! أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله، قال طاوس: والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت من هذه الكلمة.

موقف الحجاج مع سعيد بن جبير موقف عجيب، وسعيد بن جبير أحد الصالحين العلماء الذين نشروا العلم والحديث، وكان أمة من الأمم، قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين، وكان الحجاج يبحث عنه، ولما اصطاده بعد ثمان سنوات وقيل أكثر، أدخل عليه، وقصته معروفة ذكرها صاحب تحفة الأحوذي في أول شرحه على الترمذي في المقدمة.

دخل سعيد بن جبير، فقال له الحجاج: ما اسمك؟ يعرف أنه سعيد بن جبير عالم المسلمين.

قال: أنا سعيد بن جبير.

قال: بل أنت شقي بن كسير.

قال: أمي أعلم إذ سمتني.

قال: شقيت أنت وشقيت أمك، والله لأبدلنك في الدنيا ناراً تلظى.

فقال سعيد: لو أعلم أن ذلك إليك لاتخذتك إلهاً.

قال الحجاج: عليَّ بالمال، فأتوا بأكياس الذهب والفضة فنثروها بين يدي سعيد بن جبير ليفتنه.

قال سعيد بن جبير: يا حجاج! إن كنت اتخذت هذا المال ليمنعك من عذاب الله فنعم ما فعلت، وإن كنت اتخذته رياءً وسمعة وصداً عن سبيل الله فوالله لا يغنيك من الله شيئاً.

قال الحجاج: عليَّ بالمغنية - جارية وهي تغني الأغنية وبدأت تُروَّج من عهد الحجاج، بدأ العزف على الموسيقى، وبدأت الجواري وهو تاريخ قديم لما يسمونه بكواكب الشرق وكم في الشرق من كواكب لكنه ظلام دامس! ينتهي بكوكب تسمى كوكب الشرق، يوم أتت إسرائيل بطائراتها ودباباتها تسحق الأجيال والألوف المؤلفة، والناس يصفقون لـ كوكبة الشرق.

قال للجارية: اعزفي -يذبح عالم المسلمين سعيد بن جبير محدث الدنيا وتغني الجارية! - فانطلقت تعزف فبكى سعيد بن جبير.

فقال الحجاج: طربت -أي: تبكي من الطرب- لأن بعض الناس يبكي عند سماع الطرب؛ لكن وقت الموت ليس ساعة طرب: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٦].

قال: طربت فتبكي؟!

قال سعيد: لا والله، والله ما بكيت إلا أني تأملت في جارية سُخِّرت لغير ما خلقت له -أخلقت تغني؟ كلا.

بل خلقت تسجد لله، خلقت تعبد الله، خلقت تعرف طريقها إلى الله.

قال: خذوه، يعني: خذوا سعيد بن جبير وولوه إلى غير القبلة، وقال: والله لأقتلنك قتلة ما قُتل بها أحد من الناس.

قال سعيد: يا حجاج بل اختر لنفسك أي قتلة تريدها، والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها فاختر لنفسك.

قال: ولوه إلى غير القبلة.

قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:١١٥].

قال: أنزلوه أرضاً.

قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:٥٥].

قال: اقتلوه.

قال سعيد: [[لا إله إلا الله محمد رسول الله، خذها يا حجاج حتى تلقاني بها غداً عند الله، اللهم لا تسلطه على أحد بعدي، يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج]] وبعدها في المجلس ثارت بثرة في يد الحجاج، وبقي شهراً يخور كما يخور الثور لا ينام، ولا يستطيع الأكل والشرب والراحة، يقول: ما مرت بي ليلة إلا رأيت كأني أسبح في الدم، وما مرت بي ليلة إلا رأيت كأن القيامة قامت، ورأيت أن الله يحاسبني ويقتلني عن كل من قتلته قتلة، إلا سعيد بن جبير قتلني به سبعين مرة وقصمه الله بعدها، ومع أنه مسلم لكنه شقي، والأمور عند الله عز وجل، لكن لم يعرف الهداية ولم يعرف طريق الاستقامة، ولا كيف يتأمل مهمته في الحياة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>