للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[دعوة التخصص هي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم]

كثير من الناس اليوم يقولون: التخصص هذا قتل العلم، ولا يصح أن يكون هناك تخصص، والتخصص هو مذموم، وفي كلامه حق وباطل، أما الحق فعلى طالب الحق أن يكون عنده حد أدنى من العلوم، وقدر مشترك من العلوم الإسلامية، لكنه يبرز في ناحية من النواحي، ولا يكون قوته في كل ناحية كقوته في الناحية الأخرى، فهذا ليس موجوداً وليس متحصلاً، ومن قرأ التاريخ واستقرأ العلماء وجد أن كل عالم برع في فن ولم يبرع في الفن الآخر، يقول عليه الصلاة والسلام في أحاديث رويت عنه، ولو أن في أسانيدها نظراً: {أقرؤكم أبي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ، وأقضاكم علي وأفرضكم زيد، ولكل أمة أمين وأمين أمتي أبو عبيدة}.

إذا أتت مسائل القرآن من يسأل؟ قال عمر فيما صح عنه: [[من أراد أن يسأل عن القرآن فليسأل أبياً، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليسأل زيداً، ومن أراد المال فليأتني]] والرسول صلى الله عليه وسلم أُنسي آية في الصلاة، فلما سلم قال الناس: يا رسول الله! أنسيت، أم نسخت هذه الآية؟ -فمن يسأل؟ - قال: يا أبي، يا أبا المنذر أكما يقول الناس؟ (أعطِ القوس باريها) قال: نعم يا رسول الله.

وهذا النسيان ليس مستمراً.

الرسول عليه الصلاة والسلام أقر مبدأ التخصص عند الصحابة.

وإذا أتيت إلى فصل الرءوس عن الأكتاف بالسيف، فتعال عند خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، مهمته أن يفصل الجماجم عن الأكتاف، جماجم أعداء الله.

ومن يقسم المواريث لمن لا يستطيع أن يقسم؟ يقسمها زيد بن ثابت، يقول حافظ إبراهيم في خالد بن الوليد يعتذر في عزل عمر لـ خالد:

تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها

وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها

ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم وما رمى الروم إلا طاش راميها

الأدب: من هو أستاذ الأدب في حياته صلى الله عليه وسلم؟ من الذي يرد على الشعراء الضلال الحقراء؟ علي؟ لا، هو رجل القضاء، أبو بكر؟ لا بل هو رجل الإدارة، أعمر؟ رجل الدواوين وتجنيد الأجناس.

أعثمان؟ رجل المال والبذل والعطاء.

أثابت بن قيس بن شماس؟ لا، هو رجل الخطابة؟ إنه حسان.

أتى وفد بني تميم كما صح في السير، فقالوا: يا رسول الله، عندنا شاعر وخطيب، قبل أن نسلم، نريد أن نفاخرك بشاعرنا وخطيبنا، ونسمع شاعرك وخطيبك، فما قال رسول الله: لا، إنه هذا داعية عالمي، يريد أن يعطي كل أناس ما يحتاجونه، فجمعهم في المسجد، وقال ل حسان: أتستطيع أن ترد على شاعرهم؟ قال: إي والله يا رسول الله، قال: بماذا؟ قال: عندي يا رسول الله لسان لو وضعته على حجر لفلقه، ولو وضعته على شعر لحلقه، ثم أخرج لسانه، فضرب به أرنبة أنفه، ونحن لا نستطيع.

من يضرب أرنبة أنفه بلسانه؟! إلا ما ذكر ابن الجوزي: إن أحد الناس قال لقرينه: تعال معي، فخرج معه فوصل إلى السوق، فصعد إلى مكان مرتفع، فقال: يا أيها الناس، اجتمعوا، فاجتمع أهل السوق، قال: سمعت فلاناً حدثنا عن فلان، -وهو كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم- عن فلان عن فلان أنه قال: (من مست لسانه أرنبة أنفه دخل الجنة) فقام الناس في السوق يرفعون ألسنتهم إلى أنوفهم، لكن لم يستطع إلا بعض الشعراء، فـ حسان وصلت لسانه إلى أرنبة أنفه، وجاء صلى الله عليه وسلم وقدم له المنبر، والحديث في الصحيح، وقال: {اللهم أيده بروح القدس، اهجهم وروح القدس معك} وبدأ الزبرقان بن بدر، فألقى قصيدته التي أعد لها من شهر يقول:

نحن الملوك فلا حي يقارعنا منا الملوك وفينا تنصب البيع

إلى أن تلا خمسين بيتاً وبعده قام حسان فقال ستين بيتاً، فسحقه.

يقول في قصيدته:

إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبع

يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا

فجلس، قال بنو تميم: غلب شاعرك شاعرنا.

وقام خطيبهم عطاء بن حاجب بن زرارة، فقام وألقى خطبة، فقال عليه الصلاة والسلام لـ ثابت: قُم لأن الخطابة تخصص ثابت، فهو خطيبه، فقام ثابت إلى المنبر، فقصف كالرعود، وألقى كالقذائف كلاماً، فقال بنو تميم: وغلب خطيبك خطيبنا.

الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أفرضكم زيد} زيد في الفرائض، هو المقدم فيها لكن علي بن أبي طالب أجاد كل الإجادة في القضاء، يقول علي: {أرسلني صلى الله عليه وسلم إلى اليمن -وهذا الحديث في السنن - فقال لي: اللهم ثبت جنانه، واهد لسانه وضرب على صدري، فما اختلجت عليَّ قضية أبداً}.

علي جمع مع القضاء الكلمة التي تصل إلى القلوب، فكلام علي يصل إلى القلوب بلا ترجمان، حتى يقول ابن كثير في آخر البداية باب في كلماته الحاصلة، التي هي إلى القلوب واصلة.

ذكروا عنه في التراجم أنه -اسمع الكلمات- عند ما قيل له: كم بين الأرض والعرش؟ قال: دعوة مستجابة، قالوا: كم بين المشرق المغرب؟ قال: مسيرة الشمس يوماً.

كانت كلماته مؤثرة، يقول البخاري: "باب الرقاق وما يحذر من زينة الدنيا وقال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:٣٦] وقال علي بن أبي طالب: [[ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].

علي رضي الله عنه وأرضاه، جلس في الكوفة تحت جدار يريد أن ينقض، فمر به رجل وهو يحكم بين رجلين، وقال: "يا أمير المؤمنين! الجدار، لا ينقض عليك! قال علي: حسبنا الله ونعم الوكيل، فلما قضى بين الرجلين، وقام هو والرجلان، سقط الجدار مكانه، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:١٧٣] كما جاء في صحيح البخاري قال ابن عباس: [حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم لما ألقي في النار، وقالها محمد لما قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:١٧٣]]].

<<  <  ج:
ص:  >  >>