[معرفة قيمة الزمن]
أما بعد:
فإن الداعية يعلم أن الحياة ليست فرصة لتقلد منصب، ولا الظفر بإمارة، ولا العثور على وزارة، ولا جمع تجارة، ولا التشرف بسفارة، وليست الحياة عنده متعة يقضيها في اللهو واللعب، ليس عنده إجازة يقضيها على ضفاف الأنهار، ولا في قمم الهملايا، ولا عند شلالات نياجرا، ولا في أبراج كوالالمبور، ولا في حضور عيد الأم، وليس عند الداعية أرصدة في البنوك الربوية، وليس له هم في مراقبة البورصة العالمية، ولا الاهتمام بأسواق الذهب ولا بأسعار البترول، فكنزه وماله وغناه ومستقبله في جنات تجري من تحتها الأنهار، فلا يجهزه إلا: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:٥٤] ولا يفرحه إلا: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:٢٤] ولا يسره إلا: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين:٢٥] ولا يسعده إلا: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:٢٤] ولا يطربه إلا: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:٧٢] ولا ينعشه إلا: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:٢٠].
الداعية ليس له سفر مع ألف ليلة وليلة، ولا أنس بـ أبي نواس، ولا خلوة مع بدائع الزهور، ولا توثيق من الزير سالم، ولا سند من شمس المعارف.
سهره مع صحيح البخاري، أنسه مع ابن تيمية، خلوته مع رياض الصالحين، توثيقه من يحيى بن معين، سنده من سفيان الثوري:
هيهات رحلة مسرانا جحافلنا كما عهدت وعزمات الورى أنفُ
في كفك الشهم من حبل الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرفُ
الداعية لا يفتخر بصداقات المشاهير، ولا نجوم الكرة، ولا نجوم الفن، ولا كواكب المسرح، ولا الساسة العمالقة، ولا الفلاسفة العباقرة، ولا رموز الثقافات، فله صداقات ومودات، مع نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد، عليهم الصلاة والسلام، وله علاقة بـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وله اتصال بـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب.
الداعية ليس منهمكاً في زوايا الغرام، ولا مع قصاصات الهيام، ولا مع آهات الهجر، ولا زفرات الجوى، وأوجاع العيون السود، زفراته من: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:٨] وآهاته من: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:٥٦] وأوجاعه من: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٧ - ٢٩].
أما بعد:
فإن الداعية تتقلب به الأيام، وتتغاير عليه الليالي، وتختلف عليه الساعات، وتتعاقب عليه السنون، رضاً وغضباً، وسروراً وحزناً، شبعاً وجوعاً، منبر وحبس، شكر وشق، إقبال وإدبار، منحة ومحنة، عطية وبلية، أمل وألم، وهو مع ذلك عبد الله، ينزل مع القرآن أينما نزل، ويهبط مع الوحي أينما هبط، ويسافر مع الرسالة الخالدة أينما سافرت، ويرتحل مع القرآن أينما ارتحل، يصلي في القصر والحبس، في الجماعة والمزرعة، في الحاضرة والبادية، يسبح في النادي والمنتزه، يكبر في المسجد والسوق.
الداعية عنده شهادة أكبر من شهادات الأرض، ولديه وثيقة أعظم من وثائق أهل المعمورة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] وعنده تزكية أجل من كل تزكية: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧٣].
أيها الداعي الذي عبد الله طريق النجاة فيك قويم
أدعياء الضلال سُحار فرعون وأنت العصا وأنت الكليم