للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الابتلاء قائم في حق الرسل والعلماء]

والسر الثاني: لا يرسل الله نبياً ولا رسولاً إلا بعد أن يبتليه بالمصائب والمحن، حتى يرفع درجته، ويروضه على الصبر والاستعداد لتحمل الرسالة، يبتلي الله رسله وأنبياءه عليهم الصلاة والسلام إلى درجة أن يعلم الواحد منهم أن لا إله إلا الله، ويتيقن الواحد منهم أن لا نافع إلا الله، ولا ضار إلى الله، ولا خالق إلى الله، ولا رزاق إلا الله، فيعيشها الواحد منهم عقيدة، ويعيشها الواحد منهم إيماناً، ويعيشها الواحد منهم مبدأً، ويعيشها الواحد منهم في لحمه ودمه، حتى يقولها ويعمل بها، ويمتثل بها، ولذلك لما أرسل الله رسوله عليه الصلاة والسلام قال له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:١٩].

ومعنى ذلك: أنه لا ينفع ولا يضر، ولا يخلق، ولا يرزق، ولا يستحق العبادة إلا هو سبحانه وتعالى، ولا يرضى الله عن أعدائه؛ لأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:٣]

والقضية الكبرى قضية الإيمان أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، ولا يجيب المضطر إلا هو، وهذه هي المسألة التي كسرت ظهر الشيوعية، وأخذت الإلحاد في العالم؛ لأن ساعة الاضطرار أعظم دليلٍ على الوحدانية، فلذلك قال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:٦٢]

والمعنى يسأل الناس: من هو الذي يجيب المضطر وهو المكروب الذي بلغ من الحاجة مبلغاً عظيماً، فلا يجيبه إلا الله سبحانه وتعالى، ويكشف السوء، فهو وحده سبحانه وتعالى، وبين عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث لـ ابن عباس رضي الله عنهما عن العقيدة والتوحيد فقال: {واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.

فعلى المسلم أن يوحد الله عز وجل، وأن يعلم أنه لا يضر ولا ينفع إلا هو، وأن يردد دائماً: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:١ - ٤] وفي الآية سر وهو الصمد سبحانه وتعالى الذي تصمد له الكائنات وترجوه، وتلهج بذكره، وتطلب حاجتها منه سبحانه وتعالى، حتى قال أحدهم:

يا رب حمداً ليس غيرك يحمدُ يا من له كل الخلائق تصمدُ

أبواب كل ملوك الأرض قد أوصدت ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ

الصالحون بنور وجهك آمنوا عافوا بحبك نومهم فتهجدوا

فهذه قضية كبرى أن يعلم العبد أنه إذا أراد أن يتأهل للدعوة فيصبر على الفتن، وعلى المحن، وليعلم أنه رفع لدرجاته، وأن الله يريد به الخير، حتى يمضي على الأرض وما عليه ذرة من الخطايا، والله يصطفي من عباده من يشاء، فيبتليهم بأنواع الخوف، والمحن، والفتن، والزلازل، حتى يعلموا أن لا إله إلا الله، فيلهجوا إليه، ويطلبوه ويسألونه، وتتقطع حبالهم من غيره، فلا يمدون حبلهم إلا معه، ولا يسألون إلا هو، ولا يخافون إلا منه، ولذلك حذر سبحانه وتعالى من غيره وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:١٧٥] وقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:١٧٣ - ١٧٤].

<<  <  ج:
ص:  >  >>