[الهداية تزيد وتنقص]
أنا وأنت لسنا كـ أبي بكر الصديق، أبو بكر الهداية في قلبه مثل الدنيا، النور في قلبه مثل الشمس لا يصيبه ظلام أبداً؛ لأن وقته للإسلام، من أول يوم وضع يده في كف محمد عليه الصلاة والسلام مبايعاً ومهاجراً ومجاهداً حتى أفنى كل شيءٍ عنده في خدمة هذا الدين، وأنا وأنت نطالب اليوم أن نهتدي فنصلي في المسجد جماعة، ونطالب أن نترك الغناء والمخدرات والدخان، أما أن نطالب أن نفعل مثل أبي بكر، فلا:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامةٍ يا مربع
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمُقعدِ
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
وما بيننا وبينهم كما بين الثرى والثُريا!
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا
نحن مع الصحابة مثل العُصي وهم سيوف؛ لأن الصحابة كانوا يستيقظون مع الصباح، يقول أحدهم وقد انتبه وقد استيقظت عيناه وقلبه، من النوم: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، فأول ما يفكر به كيف ينصر هذا الدين، كيف يقدم روحه، أما نحن فأول ما نستيقظ نتفكر في إفطارنا ووظائفنا وخبزنا ولحمنا وثلاجتنا وفاكهتنا، اهتماماتهم كلها للإسلام، تقطع يد أحدهم، وتتعلق بعصبة، أو بعرق، فيجعل يده بين ركبتيه، ثم يتمطى عليها حتى تنقطع لئلا تشغله عن الجهاد؛ وتقطع يد جعفر بن أبي طالب اليمنى فيأخذ الراية باليسرى، وتقطع اليسرى، فيحتضنها بين عضديه أو ليست هذه معالم الهداية؟؟!!
من يصل إلى هذه الدرجة؟! أحد الصالحين كان فيه مرض، فكان يتبسم ويقول:
إن كان سركمُ ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ
هذا البيت لـ أبي الطيب المتنبي، رمي وهو ينشد عند سيف الدولة بدواة، فسال الدمُ من جبهته، فضحك سيف الدولة، فيقول المتنبي: يا سيف الدولة! إن كان سرك هذا الدم، فأنا لا أجد أذىً لأنه سرك.
فأتى الولي الصالح، فقد رد البيت إلى من يستحقه.
والهداية -أيها الإخوة- تزيدُ وتنقص، يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:١٧] تعبير القرآن لا يرتقى إليه، أسلوبٌ فذ، مثل كلامنا ومثل القرآن كمثل مادة التراب، نحن نستطيع أن نصنع من مادة التراب آجراً، ونصنع منها أواني فخارية، لكن هذا التراب خلق الله منه الإنسان، والقرآن من حروف نتكلم بها، ولكن كلامنا لا يمكن أن يقارب مستوى القرآن.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:١٧].
فهم اهتدوا من أول الطريق، الذي يصلي الصلوات الخمس يعطيه الله خشوعاً، والذي يترك الغناء يحبب الله إليه القرآن، والذي يتجه إلى ذكر الله عز وجل يقوده الله عز وجل إلى بر السلام: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:١٧] وفي البخاري: {وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به}.
فمن مشى في الطريق خطوةً زاده الله هداية، المؤمن دائماً في هداية بعد هداية، والكافر والفاجر في إعراضٍ بعد إعراض، لا يخرج إلا من جرائم إلى جرائم، يضع الكأس فيحمل المجلة الخليعة، ويضع المجلة الخليعة فيعرض عن القرآن، ويعرض عن القرآن فيترك المسجد، ويعق والديه فيقطع رحمه، فهو في مصائب ومدلهمة، ويقول سبحانه: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:١٣] عندنا الوقود، والطاقة، يسميها سيد قطب: محطة الوقود، هذه محطات جعلها الله للمؤمنين كالمار في سيارته -ولله المثل الأعلى- كلما أوشك وقوده أن ينتهي، تزود من الطريق التي سلكها محمد عليه الصلاة والسلام، والوقود هنا هو الإيمان والذكر والقرآن والسنة وصدق التوجه إلى الله والصيام، أنتم بين موعظةٍ وصيامٍ وتلاوةٍ واعتكافٍ وعبادة، فهي وقودكم: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:١٣] عندنا الهدى نحن زدناهم من عندنا لا من عند غيرنا، وزدناهم على الجمع والتعظيم، وقوله زدناهم دليل على أن أصل النبتة موجودة في قلوبهم، أما الذي بتر الإيمان في قلبه، وأتى يطلب الشفاء، فهذا إنسانٌ ما عرف الطريق أصلاً، بتر الفطرة، ويقول سبحانه: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} [مريم:٧٦] فيزيدهم بعد أن اهتدوا.
ثم ذكر أن من عواملِ طاقات الهداية ومما يزيد الهداية الأعمال الصالحة الباقيات، ومن الباقيات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، نحن المؤمنون عندنا هزجٌ جميل.
قرأت قبل أيام لخواجة مؤلف في علم النفس يقول: فإذا أحسست بالقلق فعليك أن تستمع إلى الموسيقى، فأقول له: خيب الله شبابك، وسود الله وجهك، وجهت الإنسان للموسيقى ليدفع القلق، وقد علمنا عليه الصلاة والسلام ذكراً وهزجاً خالداً، علمنا أن نقول: لا إله إلا الله، وهي كلمة تنشرح لها القلوب:
الله أكبر كل همٍ ينجلي عن قلب كل مكبرٍ ومهللِ
يونس عليه السلام في بطن الحوت في الظلام، ولما أظلمت الدنيا في عينيه قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فانقشعت من أمامه الظلمات:
أين ما يدعي ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
أين هذا الظلام؟ يقول لسان حال المؤمن: أين الظلام الذي يشتكيه الناس؟ أين هذه المستشفيات النفسية التي فتحت لأهل القلق والهموم والغموم؟ أين الظلام؟ أنا لا أجد ظلاماً؛ لأنني أصلي وأحمل القرآن وأذكر الله، وأتبتل إلى الله:
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه