[علم السلف وعلاقته بالخشية والعمل]
إذا علم ذلك فقد كانت حياة الصحابة علماً موصولاً بتقوى الله عز وجل؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨] فالذي لا يخشى الله ليس بعالم، ولو تعلم مهما تعلم، والله تعالى أنَّبَ كثيراً من العلماء الذين ما نفعهم علمهم في القرآن، فقال لـ بلعام بن باعوراء اليهودي الإسرائيلي أخو القرد والخنزير، لما أخذ الآيات فما نفعته في الحياة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:١٧٥ - ١٧٦].
وقال لبني إسرائيل وهو يصفهم بأردى الأوصاف يوم حملوا الكتب في صدورهم وحفظوها: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:٥] وقل لي بالله ماذا يستفيد الحمار إذا حملت على ظهره فتح الباري ورياض الصالحين وبلوغ المرام والمغني؟!
هذا كبني إسرائيل وأمثالهم من هذه الأمة، نعوذ بالله أن نكون من ذاك الصنف، لأن ابن تيمية يقول في اقتضاء الصراط المستقيم لما ذكر قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {لتتبعن سُنَنَ من كان قبلكم حذو القذة بالقذة} الحديث، قال: وسوف يقع في هذه الأمة ما وقع في الأمم قبلها؛ فإنه وُجد في هذه الأمة عباد -أو كما قال- يعبدون الله بالجهل، ففيهم مثل من النصارى الذين قال الله فيهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:٢٧] ووجد في طلبة العلم اليوم من فعل مثل ما فعل اليهود، تعلموا العلم فلم يعملوا به فقال الله فيهم: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة:١٣] قال سفيان بن عيينة: [[من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى]] ونعوذ بالله من كلا الصنفين، نعوذ بالله من عالم فاسق، ونعوذ بالله من عابد جاهل، لأن العابد الجاهل سريع الدخول في البدع والخرافات، والعالم الفاسق سريع الدخول في الشهوات والنزوات، فالخوف على هذا من الشهوات، والخوف على ذاك من الشبهات.
إذا علم هذا فكان واجبنا التعلم كما فعل سلفننا الصالح، والعلم إنما هو من الله عز وجل، يقول جل ذكره: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٢] فالذي يعلم هو الله، والذي يفهم هو الله، وكلما اتقاه العبد كلما علمه وفهمه، انظر لـ ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة وهو يمرغ وجهه بالتراب -كما في ترجمته- ويقول وهو شاب في العاشرة من عمره يا أبناء العشرين ويا أبناء الثلاثين والأربعين، يمرغ وجهه في التراب ويقول: " يا معلم إبراهيم علمني ويا مفهم سليمان فهمني " {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:٧٩] وإبراهيم يقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ} [مريم:٤٣] فيقول ابن تيمية: " يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني" فعلمه معلم إبراهيم، وفهمه مفهم سليمان، علماً وفهماً صادقين خالصين استخدمهما في نصرة لا إله إلا الله، ولذلك فجر طاقة في المعمورة، حتى نكس التاريخ وقاده وراءه حتى أصبح التاريخ لـ ابن تيمية، يقول أحد المستشرقين فيما اطلعت عليه: وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض -يعني: دنميت- فجر بعضها ابن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفجر إلى الآن، حتى يقول المزي: "ما وجد قبله بخمسمائة سنة مثله" وكأنه يقال: وحتى الآن ما وجد مثله، ولا نغلو فيه فنقول: ليس بمعصوم، ولكنه رجل صالح، وعلامة جهبذ، وإنسان أراد أن يقود الأمة، وصحوة في عصره على قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيوب بن أبي تميمة السختياني أحد رجال الكتب الستة، يخرج من بيته -وهو من العلماء العاملين- إلى أهل السوق، فيرون في وجهه لمعان النضرة والنور والبهاء والإقبال على وجهه، فيذكرون الله: لا إله إلا الله، ذكرَّهم المنظر بذكر الله عز وجل، وهو ممن إذا رؤوا ذكر الله عز وجل.
أيوب هذا كانت تصيبه الرقة والبكاء من خشية الله، فإذا بكى مثَّ أنفه كأن به زكام، ومابه من زكام ولكنه البكاء، يقول عنه ابن الجوزي وهو يتحدث عنه في صيد الخاطر:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن به مضغ الكلام ولا نسج الحواجيب
يقول: تعيش أيها المصلح يومَ ماعرفت النقاق والرياء إذا بكيت من خشية الله مثت أنفك كأنك مزكوماً، وأنت لست مزكوماً، وإنما زكامك خشية، ورقة وإقبال على الله عز وجل.
أيوب بن أبي تميمة السختياني ورد عن مالك، أنه قال: "ما كنت أظن أن في أهل العراق خيراً حتى رأيت أيوب بن أبي تميمة السختياني سلم على الرسول عليه الصلاة والسلام في قبره، ثم بكى حتى كادت أضلاعه تختلف".
لأن الإمام مالك يقول في الرواية عن أهل العراق أنزلوهم منزل أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وورد عنه أنه قال: يخرج الحديث عندنا من المدينة شبراً، ويعود من عندهم ذراعاً، لكن لما رأى هذا الصنف والطراز الممتاز رجع عن كلامه، حتى الإمام الذهبي في السير يقول للإمام مالك: "رحمك الله! بل في أهل العراق العلماء والجهابذة والصادقون" أو كما قال، كـ سفيان الثوري وقتادة بن دعامة السدوسي وعلقمة وإبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي.
الشاهد أن هؤلاء العلماء كانوا نوراً يسري على الأرض، فتعلموا العلم ووجهوه للناس، عبد الغني المقدسي رحمه الله كان يدرس الحديث فإذا بدأ في الحديث لا يسمع كلامه من كثرة بكائه، وكان يقول: "وهل العلم إلا الخشية من الله".
ويذكر الخطيب البغدادي صاحب كتاب اقتضاء العلم العمل: أن أحد العلماء توفي، فرؤي في المنام فقالوا ما فعل الله بك، قال: " ذهبت تلك الشطحات وذهبت تلك العلوم - علوم عرضية ليست علوم شريعة - وبقيت لنا سورة الفاتحة كنا نعلمها العجائز في قريتنا".
ولذلك يقول ابن تيمية وهو يتحدث عن المأمون: "إن الله لا يغفل عنه، فسوف يسأله الله عز وجل عن العلم المنطقي والفلسفي الذي أدخله على المسلمين".
هل نحن بحاجة إلى علم المنطق والكلام والفلسفة؟
لا.
بل نحن بحاجة إلى علم أتى كالغيث من السماء، أتى من فوق سبع سماوات إلى قلوبنا، نروي به الظمأ، ونحيي به القلوب، ولذلك كان من هدي السلف الصالح العمل.
ابن المبارك رحمه الله يقول وهو يقرأ في كتاب الزهد الذي ألفه -المطبوع المحقق- وما أصبحنا ننظر إلا من رحم الله إلا إلى الغلاف، وجودة الطبع والتحقيق، ومن خرج الحاشية والفهرسة، كان يفتحه أمام الناس، فيخور كما يخور الثور من البكاء، هذا عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه الذي يقول لطلبة العلم.
لا ينفع العلم قبل الموت صاحبه قوم به سألوا الرجعى فما رجعوا
يقول: اليوم ينفعك العلم، ولا ينفعك غداً، متى تعمل بعلمك إذا ما عملت به اليوم.
تلميذ أبو إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين قدموه إلى السلطان، وكان السلطان فيه شبه في العقيدة، فقالوا هذا قام بحرب السلطان الخراساني، فأتوا بهذا التلميذ فقال له السلطان: قل لا إله إلا الله.
قال: يا أيها السلطان أتعلمني أنت لا إله إلا الله، أما أنا فقد تعلمتها من الفطرة، وقد رضعتها من الصغر، ولا إله إلا الله أموت من أجلها الآن.
قال: لماذا لا تتجهز بعمل صالح قبل أن أقتلك الآن.
قال: إن سيدي - يقصد شيخه أبا إسماعيل الهروي - قال لي:" إن الدابة لا تعلف الشعير إذا أردت أن تصعد بها العقبة" تريد أن تصعد بالدابة العقبة من الصباح فتعلفها لتسمن، ومتى يمكنها أن تسمن؟ يقول: إذا لم أدخر من العمل الصالح قبل هذا الموقف فلا ينفعني، يوم يكون السيف على رأسي والموت أمامي، وقد نمت في جفن الردى، فأنا كالدابة تترك حتى إذا أراد صاحبها أن يصعد بها في العقبة أعطيت الشعير لتسمن، ولن تسمن في ساعة ونصف.
ولذلك إذا لم نأخذ هذا العلم تطبيقاً من الآن فإننا لن نسمن به، ونخاف -نعوذ بالله- أن نعذب به عذاباً أليماً، حتى ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه كما في كتاب الزهد للإمام أحمد أنه قال: [[ويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات، وويل لمن عمل ولم يعلم مرة واحدة]] أو كما قال.