للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

واجبنا عليهم وواجب الأمة أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، العالم إذا نزل ليغير المنكر نزلت الأمة معه، كان ابن تيمية يدرس بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ثم ينزل بالعصا والمقص، عنده مقص في جيبه، فينزل في الأسواق أما العصا فيقيم بها الحدود والتعزير، وأما المقص فيأتي إلى من أطال شعره على مذهب البطائحية فيقص شاربه، ويقص جمام الناس التي تخالف السنة، لأنها فرقة خالفت السنة وأصبح لهم شعار خاص، ثم يقف إلى الموازيين والمكاييل يغيرها، وإلى أصحاب الفاكهة، ويسلم على الباعة ويَعِظُهم، ويأمر من أسبل إزاره بتقصير إزاره في السوق.

فإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ إذا طلعت لم يَبْدُ منهن كوكبُ

يقود ابن تيمية الأمة في أحلك الظروف، أتى التتار، فأتى إلى السلطان وقال له: اخرج قاتل الكفار؟

قال السلطان: هؤلاء التتار يغلبونا، قال: لا.

قاتلهم بالسياط الشرعية، والسيوف المحمدية، وأنا معك، فوالله لننتصرن، قال السلطان: قل: إن شاء الله، قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً!

قال: أخاف أن أهزم؟

قال: إما أن تقاتل وإلا قطعنا عنك البيعة، ولا بيعة لك بعد اليوم، ومعنى ذلك: أن ابن تيمية إذا قال: لا بيعة، انتهت المسألة، انتهت الدنيا!

فنزل السلطان وقاتل مع الناس، ونصر الله المسلمين {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٥].

يقول سبحانه عن العلماء وطلبة العلم: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:٦٣].

يقول: أين العلماء؟ أين طلبة العلم؟ أين الدعاة؟

لماذا لا ينهوا هؤلاء السفهاء الذين قست البلاد وقحطت بسبب ذنوبهم وأخطائهم وتعدياتهم؟ أين طلبة العلم؟ أين شباب الصحوة؟

{لَوْلا يَنْهَاهُمُ} [المائدة:٦٣] أي: هلَّا {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:٦٣] قال بعض المفسرين: لبئس ما كان يصنع الربانيون من العلماء بتركهم النهي عن المنكر والأمر بالمعروف.

وقال آخرون: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:٦٣] الذين يقولون الإثم، ويأكلون السحت، وكلا المعنيين صحيح.

وقال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:١٠٤] كلمة الحق ثقيلة لكن تحتاج إلى رجال، وعند ابن حبان عن أبي ذر وهو حديث صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: {قل الحق ولو كان مراً}.

الحق مثل العلقم، الحق فيه تقديم الرءوس؛ لكن قل الحق ولو كان مراً.

{أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وسيد الشهداء: حمزة -عم الرسول عليه الصلاة والسلام- ورجل قال كلمة حق عند سلطان فقتله} هذا سيد الشهداء.

والأمة تحتاج إلى كلمة حق هادئة، بكلامٍ لين، تصل كلمة الحق ليكون فيها خير للأمة وللعباد وللبلاد ولولاة الأمر.

ذكر الذهبي عن ابن أبي ذئب؛ العالم الكبير قرين الإمام مالك، وكان محدث المدينة، جلس في المسجد، فدخل المهدي الخليفة العباسي، فقام الناس له إلا ابن أبي ذئب لم يقم، ولم يتزحزح من مكانه:

أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت وإذا نطقت فإنني الجوزاء

قال المهدي: يا ابن أبي ذئب! قام الناس لي ولم تقم أنت؟ قال: أردت أن أقوم لك فذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦] فتركت القيام لذاك اليوم.

قال المهدي: اجلس! والله ما بقيت شعرةٌ في رأسي إلا قامت.

كلام يقيم الميت، يحيي العظام بإذن الله.

أتى ابن أبي ذئب إلى أبي جعفر قبل المهدي، قال أبو جعفر: أسألك بالله يا ابن أبي ذئب هل أنا خيرٌ أم الحسن بن الحسن؟ لأن الحسن هذا يجادله، ويقاتل على الخلافة، من أولاد علي بن أبي طالب قال: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: عزمت عليك.

قال: ورب هذا البيت إنك ظالم.

خذها أو اتركها -يقول: ظلمت الأمة، لا أقول لك: عادل وأنت ظالم- ثم ذهب.

فكان الإمام أحمد يمجد ابن أبي ذئب كثيراً، ويدعو له.

وأتى النابلسي فقال لتلاميذه: من كان عنده عشرة أسهم فليرمِ النصارى بسهمٍ، ويرمي الفاطميين بتسعة؛ وهم حُكَّامُه في القاهرة، لكنهم كانوا ملاحدة زنادقة.

قال: ويرمي الفاطميين بتسعة أسهم، فسمع السلطان فاستدعاه، وقال: يا نابلسي! سمعنا عنك فتيا خطيرة.

قال: ما هي؟ قال: سمعنا أنك تقول: من كان عنده عشرة أسهم فيرمينا بسهمٍ ويرمي النصارى بتسعة.

قال: الفتيا خطأ.

قال: ما هي؟

قال: يرميكم بتسعة ويرمي النصارى بسهم، فذبحه ذبحة ما ذُبِحَ بها أحد من الناس.

وطلعات العز بن عبد السلام يأتي إلى السلطان يأمره وينهاه، فيرفض السلطان، فيخرج العز بن عبد السلام على حمار، فتخرج الأمة وراءه من القاهرة ويقولون للسلطان: والله لا نبقى في القاهرة ولنخرجن مع العز بن عبد السلام حتى تعيده، فيخرج السلطان وراء العز بن عبد السلام يطلب منه أن يعود ويترجاه، فقال: لا أعود حتى تنفذ الشروط:

منها: أننا متى أردنا أن نبيعكم بعناكم وسلمنا ثمنكم لبيت المال؛ لأنهم موالي قطز، وقرابته موالي يباعون ويشترون في العهد الأول، وحرج بهم في السوق مرتين، يقول: من يشتري قطز؛ قطز صاحب عين جالوت؛ البطل، الشهم، الشجاع، الذي لما حضر المعركة، واحتدت السيوف، وبدأت الرماح تخطف الرءوس أخذ خوذته ووضعها تحت قدمه، وقال: وإسلاماه وإسلاماه وإسلاماه! فسمعته الأمة فثبتت ونصرهم الله، وهو بطل، مع ذلك غضب عليه العز؛ لأنه أراد أن يتخلف عن الجهاد، فقال: إما أن تجاهد أو أبيعك وأسلم ثمنك لبيت المال، فجاهد.

ويقولون: طرق عليه السلطان يريد ذبحه، فخرج مسرعاً، وقال: اللهم ارزقني الشهادة، ولكن يقول لابنه عبد اللطيف: أبوك أهون على الله من أن يرزقه الشهادة، يقول: ربما كنت مذنباً فلا يمنحني هذا الشرف العظيم والوسام الرفيع.

ودخل الأوزاعي على عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور، وكان سيف ذاك مسلطاً، والسيوف على رأسه، فقال للأوزاعي: ما رأيك في الدماء التي سفكناها؟

قال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة} قال الأوزاعي: فرأيت وزراءه -يعني: وزراء عبد الله بن علي - ضموا ثيابهم خوفاً من دمي أن يرش ثيابهم، فثبت.

وسأله عن الأموال؟

قال: إن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.

قال: اخرج، فخرج وأنجاه الله.

قالوا للأوزاعي: كيف استطعت أن تتحدث؟

قال: والله ما دخلت عليه إلا تصورت عرش الرحمن بارزاً يوم القيامة، فصغر في عيني كأنه الذباب.

ودخل ابن السماك على أبي جعفر فجلس عنده؛ ابن السماك العالم، الداعية، الواعظ، فأتى الذباب يطير على أنف أبي جعفر المنصور الخليفة، فَيُطَيِّر الذباب فيعود على أنفه، فيطيره فيعود على أنفه، قال أبو جعفر يا ابن السماك! -يريد أن يهينه أمام الناس- لماذا خُلق الذباب؟

يعني: ما هو السر في خلق الله للذباب؟ قال: ليذل به أنوف الطغاة.

والنماذج تستمر، والأمة في حشد هائل تتحرى من أهل العلم أن ينهوا عن المنكر ويأمروا بالمعروف كما أمرهم الله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>