[الدين يرفع زيد بن حارثة]
زيد بن حارثة هو مولى للرسول صلى الله عليه وسلم, لم يذكر أحد من المسلمين في القرآن باسمه إلا زيد بن حارثة، فَلَمْ يُذكر في القرآن أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا خالد، وإنما ذكر في كتاب الله زيد بن حارثة يتلى إلى قيام الساعة.
كان رقيقاً, ليس له قيمة عند قريش, فالجاهلية تدوس الإنسان كما تدوس أنت التراب, الجاهلية لا تعبد إلا القيم, والمناصب, والجاهات, والشارات، والأوسمة, فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم كرم الإنسان وعرف قيمته.
أحد الناس -ولا أريد أن أستشهد بأبياته في مثل هذا الموقف؛ لأنه أعمى القلب والبصر لكن لا بأس, يقول علي رضي الله عنه: [[الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنّى وجدها]] هذا الأعمى هو البردوني شاعر اليمن , أعمى القلب والبصر, كان في شبابه يمدح الإسلام لكنه انتكس, يقول في بعض العصاة الفجرة المردة على الله:
قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
مهلاً فديت أبا تمام تسألني كيف احتفت بالعدى حيفا أو النقب
إلى آخر ما قال.
إنما المقصود أن الذي لا يرفعه الله لا يرتفع أبداً, فـ زيد بن حارثة أتى إلى هذا الدين، ووضع كفه في كف محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأعطاه صلى الله عليه وسلم درساً من التربية لا ينساه أبداً.
أتى أبوه وعمه إلى محمد صلى الله عليه وسلم يريدونه؛ لأن زيد بن حارثة فارق أهله وهو صغير, سبته قريش في الجاهلية, فأخذته وأدخلته معها في دينها وفي طاغوتها وأصنامها, فلما دعا صلى الله عليه وسلم إلى لا إله إلا الله, كان أول من استجاب له العبيد، والرقيق، والضعفاء، والمساكين.
يقول الأستاذ الشهيد سيد قطب نسأل الله أن يجعله شهيداً، يقول: إن هذا الدين خال من الطلاء -أي: ليس هناك دعايات على الدين- من أراد الدين يأتي للدين لنفس الدين، أي: ينقاد من نفسه, فليس هناك دعايات مغريات كما تفعل الشيوعية أو النصرانية أو اليهودية أو البابية أو البوذية التي تدعو وتضخم وتقول: عندنا وعندنا!! فإذا أتيت إليها وجدتها هباءً منثوراً, لا تجد منها شيئاً, إنما الإسلام ينصب نفسه، ويقول: من يريدني فليأتِ, سواء أكان الآتي ملكاً أو وزيراً أو غنياً أو فقيراً.
يقول سيد قطب: إن هذا الدين خال من الطلاء, من أراده أتاه لذاته, فأتى زيد بن حارثة، ووضع كفه في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعلمه صلى الله عليه وسلم ورَّباه, وما ظنكم بإنسان كأنه أبوه, كان يدعى زيد بن محمد , ومن لطافته صلى الله عليه وسلم أنه ما أثار ولا خدش ولا جرح شعور إنسان رافقه في الحياة الدنيا ولو بكلمة, حتى أعداؤه من الكفار, ونتحدى أن يأتينا عدو من أعداء الإسلام بكلمة نابية قالها صلى الله عليه وسلم لأعدائه, فهذه كتب الحديث والسيرة والتراجم, تعالوا بكلمة واحدة نابية مؤذية أو جارحة للشعور قالها صلى الله عليه وسلم حتى لأعدى أعدائه, فقد بُصِقَ في وجهه صلى الله عليه وسلم, ونُثر التراب على وجهه, وأُهينت كرامته في الحرم وضربت بناته, وطرد من دياره, وقوتل وأوذي وسُب, وشُهِّر في كل مكان, وما قابل ذلك إلا بالسكوت وبالصمت وبالحكمة وبالأناة وبالحلم، حتى يقول الله من فوق سبع سماوات: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤].
من يتحمل مثلك هذه الأمم؟ من يستطع مثلك أن يشق طريق الحياة بعزم وتصميم وخلق حسن؟
ويقول سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩].
فجاء أبو زيد بن حارثة , وجاء أعمامه, وكانوا يُعلنون عنه في سوق عكاظ: من وجد ابن حارثة؟ -والجريدة التي اسمها عكاظ سميت باسم سوق عكاظ آنذاك- فقال لهم رجل: أنا وجدت غلاماً اسمه زيد يمشي مع الذي ادعى النبوة، دائماً يمشي معه, فأتى أبوه وعمه وإخوانه ودخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأول ما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم انشجروا، أي: تصوروا أن العرب يعيشون في الصحراء في مكة تحرقهم الشمس فتؤثر في أبدانهم وألوانهم إلا الرسول عليه الصلاة والسلام, فكأنه أتى من السماء, وجهه كالقمر ليلة البدر, حتى من رآه يعرف أنه ليس بكذاب, حتى اليهود قالوا ذلك, فلما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم خجلوا, كان قصدهم أن يضاربوا ويصارعوا من أخذ ولدهم, لكن لما رأوه صلى الله عليه وسلم وجلوا وخافوا, فقالوا: هذا ابننا, قال صلى الله عليه وسلم: {أهذا أبوك؟ قال: نعم.
قال: وهذا عمك؟ قال: نعم.
قال: اختر إن شئت أن تذهب إليهم فاذهب، وإن شئت أن تبقى معي فابق معي, فدمعت عينا زيد , وقال: يا رسول الله! أتتركني؟ قال: أنت بالخيار، إن تردني فأنت معي, قال: والله لا أريد إلا أنت في الدنيا وفي الآخرة.
فبكى صلى الله عليه وسلم, وقال: أنت معي, قال أبوه: أنا أبوك, وقال عمه: أنا عمك, وقال إخوانه: نحن إخوانك، كيف تتركنا وتذهب إلى محمد؟ قال صلى الله عليه وسلم: قد قلت لكم: إن أرادكم فليذهب معكم، وإن أرادني فليبق معي, قال: لا أريد إلا أنت يا رسول الله}.
فذهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, واستمرت به الحياة, وطالت به حياته وأيامه التي لا تنسى مع الرسول صلى الله عليه وسلم, ما كان يغضبه أبداً, بل كان -كما في السيرة- ما قام صلى الله عليه وسلم إلا لقلائل من الناس, فما كانت عادته أن يقوم صلى الله عليه وسلم من مجلسه.
يأتي بعض ملوك العرب وفيهم من الكبر والعتو، ويريدون أن يقوم لهم الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يقوم, يسلمون ويجلسون هنا وهنا, فإذا أتى زيد بن حارثة قام صلى الله عليه وسلم، وشق الصفوف، وعانقه وأجلسه بجانبه, لماذا؟ ليخبر الرسول صلى الله عليه وسلم الإنسانية أن هذا الدين دين قيم وأخلاق وتعامل, لا دين مناصب ووظائف وشارات وأوسمة.