[الشعر وأثره]
فالشعر الجميل لا بأس أن ينشد ويستشهد به، فإنه يدعو الكريم إلى الكرم، ويحجز البخيل عن البخل، ويدعو الذليل أو الجبان إلى أن يعود إلى المعركة، يقول معاوية بن أبي سفيان: [[والله لقد كدت أفر يوم صفين ما حبستني إلا بعض الأبيات]] التقى هو وعلي بن أبي طالب يوم صفين، وفارس الصف الأيمن علي بن أبي طالب، وفارس الصف الأيسر علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم في الجنة، فلما التقوا خرج علي رضي الله عنه، -وأنتم تعرفون من هو علي بن أبي طالب - خرج بالسيف، وخلع درعه من على جنبه وقال: من يبارز؟! وهذه هي علامة الشجاعة أقصى الشجاعة، إذا خلع البطل درعه فليس هناك أشجع منه، فهابه الناس كان أهل الشام ثمانين ألفاً ما استطاع أحد أن يبارزه، قال: من يبارز؟ قال الناس لـ معاوية: نسألك بالله أن تبارزه، قال: لا أستطيع، كأنه يقول: لو كان غيره لبارزته، لكن من يبارز أبا الحسن؟! قال: معاوية: يا عمرو بن العاص، قم بارزه، قال: أبارز علياً؟! قال: عزمت عليك أن تبارزه، والمبارزة هي المصارعة قبل المعركة أمام الناس، فقام عمرو بن العاص فلما رأى علي بن أبي طالب ألقى سيفه في الأرض، وقال: مكره أخاك لا بطل، وهو أول من قال هذا المثل، كأنه يقول: ما جئت نداً لك ولا قرناً، ولكن أكرهوني حتى أخرج، فتبسم علي ورجع، فلما بدأت المعركة انهزم معاوية في أول اليوم وفر ببغلته، فلما أصبح وحده في الصحراء تذكر أبياتاً لـ ابن الإطنابة الحجازي يقول:
أبت لي عفتي وأبى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: فتذكرت هذه الأبيات، فرجعت إلى المعركة، وتم ما تم.
فالمقصود أن الشعر له تأثير، وأنا سوف أختار لكم ما يسهل الله عز وجل، وقد روى أهل التفسير أن عمر رضي وأرضاه ولى أحد الصحابة، واسمه النعمان بن عدي بن نضلة ولاه في ميسان قريباً من البصرة، قال: أنت أمير عليها فاذهب، فذهب، وعمر كان يتفقد أمراءه وولاته، وكان يرسل عيونه، وينظر هل يغدرون هل يخونون، هل يظلمون، وكان يحاسبهم يوم عرفات يوم الحج الأكبر، يجمع الحجاج ويأتي بالأمراء، ويقول: يا أهل العراق ماذا ترون في أميركم؟ والدرة في يد عمر، المحاسبة والجلد، إن جلدوا أناساً جلدهم، وإن أخذوا الأموال ردها، حتى جاء رجل مصري من ضمن الناس قال: يا أمير المؤمنين! أشكو إليك ابن أميرك في مصر، محمد بن عمرو بن العاص، وكان أمير مصر عمرو بن العاص، قال: ماذا فعل؟ قال: سابقته بفرسي وهو على فرسه، فسبقته، فضربني وقال: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟! قال عمر: أوَّه! كأنه يقول: من أجل أن فرسك سبق فرسه يضربك، علي به، فأتو به وقال له: قف هنا فوقف، وأتى بـ عمرو بن العاص ثم قال للصحابة والذي لا إله إلا هو لا يحول بيني وبينهم أحد.
وإذا حلف عمر حلف.
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقماتٍ قوله قيل
فأخذ العصا، ثم أخذ عمرو بن العاص وقال: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!]] ثم دعا بابنه وقال: تعال يا بن الأكرمين، وأمر المصري أن يضربه، ثم قال للمصري: هل رضيت؟ قال: نعم رضيت يا أمير المؤمنين.
فأرسل عمر هذا الأمير، واسمه النعمان بن عدي بن نضلة، فذهب إلى القرية، وسمر ليلة من الليالي، وهو رجل صالح ولكن فلتت منه أبيات، وما كان يدري أن هذه الأبيات سوف تبلغ عمر في المدينة ويحاسبه، يقول هو وهو يريد أن يروح عن نفسه، يقول:
فمن مبلغ الحسناء أن حليلها بـ ميسان يسقى في زجاج وحنتم
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
والحسناء زوجته، وكانت في المدينة، يقول: من يخبر زوجتي أني أشرب الخمر في الحنتم، وقد أصبحت أميراً، وبعد أن كنت أشرب اللبن والماء، منَّ الله علي بالإمارة، حتى أصبحت أشرب في الزجاج الخمر.
قد قال هكذا، وهو لم يفعل:
ثم قال:
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
يقول: ربما لو بلغت هذه الأبيات عمر، لغضب علينا، حين نتنادم في الجوسق أي في الخيمة المتهدمة الأطراف ونسمر، وفي الصباح بلغت الأبيات عمر، وقيل بعد أيام، فقال عمر: علي به، فوفد، قال عمر وقد أخذ العصا، من الذي يقول:
فمن مبلغ الحسناء أن حليلها بـ ميسان يسقى في زجاج وحنتم
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
قال: أنا يا أمير المؤمنين، قال عمر: والله لقد ساءني، فكيف تقول هذا؟! عليك الحد، والحد ثمانون جلدة لمن يشرب الخمر، قال: يا أمير المؤمنين والله ما شربتها، ووالله لا تدخل لي بطناً، وأسأل الله أن يقتلني شهيداً، ولكن الله يقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:٢٢٤ - ٢٢٦] قال عمر: أما هذه فقد أسقطت الحد عنك -أي بهذه الآية أسقطت الحد- ولكن والله لا تلي لي إمرة بعدها أبداً، فعزله فذهب فقتل في تستر شهيداً في سبيل الله.