[أصل كلمة (الكتاب)]
والكتاب ورد في القرآن مشتقاً ومصدراً، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:١٨٣] أي: فرض وألزمتم به، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:٢١٦] حتى يقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:١٨٠] أي: ألزمتم ووجب عليكم، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:٢٤] أي: إيجابه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقال جلت قدرته: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:٤٥] أي: فرضنا وأوجبنا، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:١٠٥] أي: قضينا وقدرنا، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:٦٨] أي: قضاء وقدر -في مغانم بدر - وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:٢٩] هذه بلقيس كانت في أرض سبأ عند سد مأرب فألقي إليها كتاب كريم من سليمان، لماذا سمي كريماً؟ قالوا: لأن عليه الخاتم.
والملوك لا يقرءون إلا كتباً مختمة، أما الكتب العادية التي من الناس فلا يقرءونها، فلما أراد سليمان أن يكتب كتاباً؛ قال له وزراؤه ومستشاروه: اكتب لها واختم فإنهم لا يقبلون كتاباً إلا مختماً.
وفي صحيح البخاري عن أنس: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى هرقل عظيم الروم، فقال الصحابة: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختماً؛ فاتخذ عليه الصلاة والسلام خاتماً فيه (محمد) سطر و (رسول) سطر و (الله) سطر، فختم به فقرئ عند هرقل}.
قال الله: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:٢٩] أي: مختم، انظر ما أطول الكتاب! نص الكتاب: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:٣٠ - ٣١] هذا هو كل الكتاب.
ولذلك العظماء يوجزون في الكلمات، فـ خالد بن الوليد له أقصر كتاب في التاريخ، فقد نزل رضي الله عنه بالجيش في اليرموك فاجتمعت عليه كتائب الروم من كل جهة، حتى يقول أحد الجيش: الملتجأ إلى أجى وسلمى (وأجى وسلمى جبلان في حائل، وهما اللذان تنزل فيهم قبائل شمر، وهي قبائل حاتم الطائي المسماة قبائل طي) فدمعت عينا خالد وقال: إلى الله الملتجا.
وينظر خالد إلى اليمين فإذا هي كتائب، وينظر وراءه فإذا هي كتائب، وأصبح داخل هذه المستعمرة المتحركة من الجيوش التي هي كالبحور! مائتان وثمانون ألف رومي، وهو فيما يقارب ثلاثين ألفاً من الصحابة ومن المسلمين، فماذا فعل؟
أرسل في الليل رسالة إلى عياض بن غنم، وكان بطلاً عنده جيوش وقبائل العرب كلها، لو نادى فيهم لأجابوه، قال في الرسالة: (بسم الله الرحمن الرحيم من خالد إلى عياض إياك أريد والسلام).
وهذا كان أخطر كتاب، فلما قرأه عياض بن غنم قام وسط الليل فنادى في قبائل العرب وجيوشها وكتائبها، فما أصبح الصباح إلا وقد ترس بطوق آخر وسوار على الروم من الخارج! وأراد الروم أن يخلصوا من هذا السوار، وبكل صعوبة رجعوا إلى مواقعهم، وبدأت المعركة، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
يا من يرى خالداً بالبرد معتجراً تحت العجاجة مثل الأغطف الغادي
وما نصر إلا بفضل الله، ثم بإيمانه ويقينه وصدقه وإخلاصه.
ولما توفي خالد بن الوليد قامت المدينة في رنة من البكاء، وشاركهم في البكاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأتى رجل وقال لـ عمر: يا أمير المؤمنين! أسكت النساء فإنهن يبكين على خالد.
قال: ثكلتك أمك! دعهن يبكين، على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي.
وللفائدة: كتاب سليمان كتبه ثم أعطاه للهدهد؛ لأن الهدهد هو الذي أتى بالخبر، فحمله فوصل في وقت القائلة، وهي ليست في دوام في ذلك الوقت بل في إيوانها نائمة، وأتاها وقت القائلة بعد صلاة الظهر، فدخل من ثقب في القصر، ثم ألقى الكتاب على صدرها -وهذا ثابت في التفاسير- فاستيقظت وذهلت، لو كان أتى بالكتاب رجل لكان أسهل، ولو أتى به وفد أو حمام زاجل جهاراً نهاراً لكان أسهل، لكن الحراسة مطوقة، والجنود على الأبواب والمنافذ، فمن أين يدخل الكتاب؟
فانذهلت وجمعت جنودها في قصة ليس هذا مجال بسطها.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:٢٨٢] والكتاب في الأصل من مادة كتب، وهو تجميع الشيء إلى الشيء، وسميت الكتيبة في المعركة كتيبة؛ لأنه يتجمع جنودها في جماعة فسموا كتيبة، قال المتنبي:
ألا أيها المال الذي قد أباده تعز فهذا فعله بالكتائب
يقول للمال: اتق الله يا أيها المال واصبر، إذا كان قد أبادك فإنه يبيد الكتائب في المعركة - سيف الدولة - كما يبيد المال.
ويقول النابغة الذبياني، وهي من أحسن القصائد التي يمدح بها النعمان بن المنذر:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم عصائب طير تهتدي بعصائب
إلى أن يقول: كتائب بكتائب في قصيدة طويلة.
فالكتائب هي الجيوش إذا جمعت، ومنه أخذ الكتاب؛ لأنه يجمع الكلمات بعضها مع بعض.