[ادعاء الإيمان أمام المؤمنين فقط]
ثم يقول سبحانه: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:١٤] يأتون إلى الصحابة في مجالسهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقولون: صدقت {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١] وهناك قال: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:١٤] ولم يقل: وإذا أتوا إلى الذين آمنوا، إنما قال: إذا لقوا، كأنهم لا يتعرضون للهداية بل هم لقوهم عرضة، كأنهم لا يذهبون لطلب العلم ولكن لقوهم في أي مكان {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} بماذا؟ بأفواههم {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:١٤] قال: خلوا والخلوة: هي الانزواء عن أعين الناس.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فالخلوة عند الصوفية يسمونها الخلوة والجلوة، والخلوة، هي: الانزواء عن أعين الناس، يقول ابن تيمية: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنّا سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة " يعني: خلوة أختلي بها مع الله عز وجل كما في الحديث: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} يعني وحده؛ لأنه أبعد عن الرياء.
فهذه الخلوة قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَإِذَا خَلَوْا) يعني خلا بعضهم إلى بعض، (إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) وهم رؤساء الضلالة، ولكل قوم شياطين، مثلاً الماسونية لها شياطين كبار، ولليهودية شياطين كبار، وهكذا والعلمانية والزنادقة هؤلاء الأساتذة والمنظرون وراء الكواليس وراء الأسوار في الليالي الحمراء {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:١٤] تضاحكوا و {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:١٤] كيف إنا معكم؟ يعني: معكم على معتقدكم ليس معكم بالجلوس، فهذا أمر معروف، إنا معكم يعني: على المعتقد والمنهج والسلوك والطريقة {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:١٤] أي: نستهزئ بالمؤمنين وقيل: مستهزئون بالعقيدة، وقيل: بالقرآن وقيل: بالرسول، والكلام كله صحيح.
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:١٤] هنا لم يقل: إنما نحن نستهزئ أو يستهزئون وإنما قال: مستهزئون؛ لأن الاسم يقبل الاستمرار أكثر من المصدر والفعل؛ لأنه اسم هنا يقبل الاستمرار والدوام أكثر من الفعل.
وفي قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:١٤] أي: إلى كبرائهم قال ابن كثير - وقد أورد الأقوال- قال: هم رؤساؤهم من اليهود والمنافقين والمشركين وهو صحيح، وقيل: علماء اليهود وأحبارهم وقيل: هم رؤساؤهم في الدنيا، وكل المعاني صحيحة لكن الواحد منهم إذا كبر سمي شيطاناً، يقول أحدهم:
وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
نعوذ بالله! يقول: وكنت امرأً من جند إبليس، أي: كنت تابعاً له فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي، أورده ابن القيم في ذخيرة الصابرين، فالمقصود أن الشيطان لا يسمى شيطاناً إلا إذا بلغ الرأس في الضلالة، فإذا أصبح رأساً سمي شيطاناً، ولذلك يقول الناس للمسرف في اللعب: هذا شيطان، ويقولون للمخرب والمدمر: شيطان مناوب، ويقولون للخبيث: شيطان مخبث، فالشيطان هو الرئيس في الضلالة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:١٤] معكم أي: على معتقدكم، يعني: في الباطن معكم وفي الظاهر مع المسلمين، ولذلك نحذر أنفسنا وإياكم من ذي الوجهين، وهو الذي يجلس مع قوم بوجه ومع آخرين بوجه أن يكون فيه نفاق وهو بلا شك فيه نفاق- وهذا من أشد الناس عذاباً كما في الصحيح.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.