[صور من حياة السلف مع العلم]
أما العنصر الثالث: كيف عاش علماء السلف العلم الشرعي، وكيف تفانوا في طلبه، وكيف أفنوا الأعمار في تحصيله، معاذ سيد العلماء الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم بأسانيد حسنة أنه قال: {قائد العلماء إلى الجنة معاذ بن جبل، يأتي أمام العلماء يوم القيامة برتوة} والرتوة: رمية بحجر، هذا العالم الكبير، والمجتهد المطلق أبو عبد الرحمن يقول وقد حضرته سكرات الموت، واقترب الوعد وأتاه اليقين، يقول وهو يلتفت إلى سقف منزله وهو يناجي رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: [[اللهم إنك تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار، ولا لرفع القصور، ولا لعمارة الدور، إنما كنت أحب الحياة لثلاث]] حياك الله يا أبا عبد الرحمن فما هذه الثلاث؟ ما هذه الهمم العالية؟ ما هذه الروح المتوقدة؟
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
قال: [[لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، وتعفير وجهي في التراب -ساجداً لله- وصيام الهواجر]] رفع الله منزلتك في الجنة، فما أعظم رسالتك للناس يوم تركت هذه الكلمات! يقول: يارب إنك تعلم أني لم أكن أحب الحياة، لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار ولا رفع القصور ولا عمارة الدور.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا
وهل الثروة إلا التحصيل؟! وهل الثروة إلا العلم النافع؟! وهل الثروة إلا النور والمعرفة التي تقودك إلى الله عز وجل، لا شيء من الدنيا ولذائذها، يقول بعض أهل العلم: ذقنا اللذائذ وتمرسنا في الشهوات فما رأينا ألذ ولا أشهى من العلم، حتى يقول الألبيري الأندلسي:
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
جعلت المال فوق العلم جهلاً لعمرك في القضية ما عدلتا
وبينهما بنص الوحي بون ستعلمه إذا طه قرأتا
يأتي سعيد بن المسيب رضي الله عنه وأرضاه وهو يتوجه لطلب العلم فيقول: [[الحمد لله، سافرت ثلاثة أيام لطلب حديث واحد من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام]] سافر ثلاثة أيام بلياليهن حتى وصل إلى ذاك الحديث، ونحن في حارتنا وفي منازلنا، تطرح علينا آلاف الأحاديث من طلبة العلم ومن العلماء، ونقول: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، نريد أن نعيش الصحوة، ولا يمكننا أن نتعلم الحديث، بل يوجد في بيوت الكثير منا آلاف الأحاديث في المجلدات، حتى يقول الشوكاني في أدب الطلب ومنتهى الإرب: إن الاجتهاد تسهل في هذا العصر ما لم يتسهل في عصر سبق.
وهذا صحيح عقلاً وحساً وحالاً وشهوداً وحضوراً، فإن الاجتهاد تسهل لوجود هذه الكتب ووجود العلماء وطلبة العلم، وتلاقح الأفكار، وتسهيل المواصلات، وطبع الكتب، واستخراجها من المخطوطات وغيرها، فكيف يتوانى الشاب في طلب العلم بعد هذا الجهد، وروى البخاري تعليقاً عن جابر رضي الله عنه وأرضاه: أنه سافر شهراً كاملاً في حديث واحد، رحم الله تلك العظام، شهراً كاملاً في طلب حديث واحد إلى عبد الله بن أنيس في العريش في مصر، ركب من المدينة، وجدَّ في السير، وأجاع بطنه، وأظمأ كبده، وأخذ كلال السفر ومشقة الغربة عن أهله، ووحشة الفراق، حتى وصل إلى عبد الله بن أنيس أحد الصحابة، فطرق عليه الباب في الظهيرة، فخرج الصحابي، فرأى الصحابي الكبير فعانقه وحياه، فقال: ادخل قال: ما أنا بداخل، قال: من أين أتيت؟ قال من مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: تريد ماذا؟ قال: أريد حديثاً سمعته من فلان حدثني أنك حدثته، قال: ادخل الآن أنت جئت من سفر، قال: ما أريد أن يكون خروجي وهجرتي إلا لله، فأعطاه الحديث ثم عاد إلى المدينة في شهر كامل.
حتى يقول الشعبي لأحد رواته، وهو رجل من خراسان: خذ هذه الثلاث، وأخبره بثلاث خصال في حديث أبي موسى في البخاري، قال: خذ هذه الثلاث فوالله الذي لا إله إلا هو! لقد كان يرحل في أقل منها إلى نواحي الأقطار أو الأمصار.
الإمام أحمد رحل آلالف الفراسخ، حتى قال بعض العلماء: لو حسبت المدة التي رحلها الإمام أحمد وكانت بالمساحة لطوقت الدنيا، رحل إلى اليمن إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني، الراوية الكبير الشهير من رجال البخاري ومسلم، فلما أراد أن يرحل إلى اليمن قال لـ إسحاق بن راهوية، فقال إسحاق بن راهوية: نعم أنا صاحبك، فلما وصل إلى الحرم وطاف بالبيت، وأراد العمرة، وإذا هم بالعلم النجم عبد الرزاق وهو يطوف، فقال إسحاق: يا أبا عبد الله، هذا عبد الرزاق مكننا الله منه، وأراحنا من السفر إليه، قال الإمام أحمد: لا آخذ منه هاهنا حديثاً واحداً، لأنني خرجت لوجه الله، وهجرتي لله، فأريد أن آخذ منه الحديث في صنعاء اليمن، لا بد من صنعاء ولو طال السفر.
وعاد عبد الرزاق وما تلقى منه الإمام أحمد حديثاً واحداً، فلما وصل عبد الرزاق بحفظ الله ورعايته إلى مستقره في صنعاء، خرج الإمام أحمد إمام أهل السنة، صاحب الأسمال البالية، والجسم النحيل، بالزهد والإقبال على الله، شيخ كبير لكنه يقود الدنيا لـ أهل السنة، ويوجه مسار التاريخ ليكون التاريخ لله، وتكون الأرض لله، وتكون السماء والتراب لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فذهب بمحبرته حتى قال له بعض المتنطعين الذين إذا تعلموا سنة أو سنتين: كفانا من العلم فقد شبعنا وروينا، يقول له: يا أبا عبد الله، أنت في الستين والمحبرة معك، فقال: نعم.
من المحبرة إلى المقبرة، وما أحسنها من كلمة لو كتبت على الجباه وسطرت، وهل العلم إلا حمل المحابر والدفاتر والأقلام، وهل التحصيل إلا ليل ونهار كما فعل الإمام أحمد.
فوصل إلى صنعاء اليمن والتقى بـ عبد الرزاق، وأخذ منه علماً كثيراً طيباً، وعاد فسجله في المسند، فجزى الله الإمام أحمد خير الجزاء، وجزى الله عبد الرزاق خير الجزاء، وجزى كل من اتجه إلى الرزاق خير الجزاء.
ولذلك أتى غلاة الصوفية -كما يقول ابن القيم - فقالوا: نحن نطلب علمنا من الرزاق لا من عبد الرزاق.
غلاة الصوفية يقولون: نطلب علمنا من الرزاق مباشرة، نطلبها من الرزاق لا من عبد الرزاق.
فنزل عليهم ابن القيم فأباد حججهم، حتى تركها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، يقول من ضمن كلامه: والله والذي لا إله إلا هو! لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفتم الرزاق، من أين يعرف الله عز وجل إلا عن طريق الرسل المبلغين، وطرق الرسل عليه الصلاة والسلام، من طريق ابن المديني ويحي بن معين وعبد الرزاق وأبي حاتم وأبي زرعة والبخاري وأبي داود وأولئك الملأ العظام.
دخل سهل بن عبد الله التستري -كما ذكر ذلك الذهبي - على أبي داود صاحب السنن، وحيا الله أبا داود، ولقد أحسن كل الإحسان بسننه حين قربها للناس، فهل من قارئ لـ سنن أبي داود، وهل من متدبر لها، التي يقول عنها ابن القيم: أصبحت سنن أبي داود حكماً بين أهل الإسلام، وموطناً من الحجج في مواطن الخصام، إليها يتحاكم المتحاكمون، وبحكمه يرضى المنصفون.
دخل سهل أحد القلوب الحية على أبي داود فقال: يا أبا داود! إني أريدك في طلب تلبيه لي، قال ماهو طلبك؟ قال: أن تخرج لي لسانك، قال لماذا؟ قال أقبلها، لأنها طالما قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع أبو داود ولكن سامح ولبى الإصرار من سهل، فقبل لسانه لأنها ترددت بالأحاديث.