[موقف الأنصار من توزيع الغنائم في حنين]
أما الغنائم -وهذه هي الشاهد- فأتى صلى الله عليه وسلم فاستدعى أبا سفيان الذي يقول: لا يردهم إلا البحر، قال: خذ مائة ناقة، أما الأنصار الذين تكسَّرت سيوفهم على رءوس الناس من الصباح فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، قال: أين صفوان الذي يقول: الآن بطل السحر؟ قال: خذ مائة ناقة، قال: أين عباس بن مرداس؟ قال: أنا سيد حنين قال: خذ خمسين ناقة، قال وكان شاعراً:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع
يقول: تعطني نصف مائة وهؤلاء تعطيهم من مائة ناقة فكيف تعطيني النصف؟
فتبسم صلى الله عليه وسلم وأخذ يردد الأبيات، ويقول وقد كسره صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يتعلم الشعر، قال:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة
فتبسم أبو بكر وكان عالماً بالشعر، وقال: [[صدق الله حيث قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩]]].
ثم وزَّع صلى الله عليه وسلم، وقال: أين الأقرع بن حابس سيد بني تميم؟ قال: هأنا يا رسول الله! قال: خذ مائة ناقة، أين عيينة بن حصن سيد غطفان؟ قال: أنا من جزارة، قال: خذ مائة ناقة، فلما وزعها صلى الله عليه وسلم أتى حكيم بن حزام قال: أعطني من هذا المال يا رسول الله! قال: أتنظر إلى هذين الجبلين وقد امتلأ الجبل بالضأن -أي: الغنم- قال: نعم! قال: خذها لك، فأتى في اليوم الثاني، وقال: يا رسول الله! زدني، قال: خذ مائة من الإبل، فأتى في اليوم الثالث: قال: زدني! فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو من سادات قريش كان حكيم بن حزام، يكسو الكعبة سنة، وتكسوها قريش سنة، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال: {يا حكيم! إن هذا المال حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيه، فينظر كيف تعملون}.
فقالوا: يا رسول الله! والله لا أرزأ أحداً بعدك -أي: لا أسأل أحداً بعدك من الناس- حتى أنه ترك عطاءه في عهد أبي بكر وعمر تركه، فقال عمر: [[أشهدكم أيها الناس أن حكيم بن حزام رفض عطاءه الذي كتب له من بيت المال من أجل كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم]].
فلما أتم صلى الله عليه وسلم توزيع الغنائم؛ نظر الأنصار أنهم لم يصبهم شيء -لا بعير ولا شاة ولا بقرة- فاجتمعوا في سور هناك في حديقة طويلة، وقال بعضهم: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم! هذه سيوفنا تقطر من دماء غطفان وهوازن، وقد أعطى صناديد نجد وتركنا، فسار الكلام بينهم حتى انتشرت هذه المقالة، فبلغت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستدعى صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة سيدهم وقد مات سعد بن معاذ، وقال: {يا سعد! ما مقالة بلغتني عنكم؟ قال: يا رسول الله! هو ما سمعت، قال: أين رأيك وفقهاء الأنصار؟ قال: وهل أنا إلا من قومي؟ -أي: أرى ما يرى قومي- قال: اجمع لي قومك ولا يدخل معكم في الحديقة أحد؟ فجمعهم رضي الله عنهم جميعاً، وأخرج كل من كان من سواهم، إلا رجلاً يقول للأنصار "خال": فلما دخل صلى الله عليه وسلم، سلَّم على الأنصار فردوا واستقبلوه عليه الصلاة والسلام، قال: هل من غيركم أحد معكم؟
قالوا: إلا ابن بنتنا -أي: يقول لهم: خال- قال: ابن بنت القوم منهم؛ فتكلم صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟
أما أتيتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله بي، أما كنتم متفرقين فجمعكم الله بي، أما كنتم فقراء فأغناكم الله بي؟
فنكسوا رءوسهم، وهم يقولون: المنة لله ورسوله، فرفع صلى الله عليه وسلم رأسه، وقال: يا معشر الأنصار! والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدَّقتم: أتيتنا فقيراً فأغنيناك، وأتيتنا طريداً فآويناك، وأتيتنا شريداً فنصرناك؟
قالوا: المنة لله ولرسوله.
قال: يا معشر الأنصار! ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟
والله ما تذهبون به خير مما يذهبون به، ثم قال: والله لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار ووادي الأنصار، اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، الأنصار شعار والناس دثار.
يا معشر الأنصار! إنكم سوف تلقون بعدي أثرة -أي: أناس يستأثرون بالدنيا عليكم.
فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، قال أنس: والله ما انتهى إلا ودموعنا قد أخضلت منها لحانا -رضي الله عنهم وأرضاهم- قالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة وحظاً عن الناس}.
فأرضاهم صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة، وأظهر لهم السر في توزيع الغنائم، ولذلك يقول: {اصبروا حتى تلقوني على الحوض} فكان بعض الأنصار الذين وجدوا في أنفسهم من بعض الناس الذين استأثروا عليهم بالمناصب والأموال، كان يبكي ويقولون: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: اصبروا، ولكن والله ما صبرنا -أي: تواضعاً منه- ولذلك لما أتى معاوية رضي الله عنه دَخْلَ المدينة، استقبله الناس إلا الأنصار؛ لأنهم كانوا في صف علي رضي الله عنهم، ولا نخوض فيما جرى بينهم، فكلهم مرضي عنهم، ليجمع بينهم سبحانه وتعالى في جنته، ومن الذين نزع الله الغل من صدورهم، فدخل معاوية رضي الله عنه بعد أن حج، دخل لزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستقبله كل الناس إلا الأنصار لم يستقبلوه، فوجد في نفسه، فصلى الجمعة، وقال لهم بعد الصلاة: يا أيها الأنصار! أين رواحلكم؟ استقبلني الناس ولم يستقبلوني! فقام رجل منهم، قيل: إنه عبادة بن الصامت، فقال: أمَّا خيولنا فطاردنا بها أباك يوم بدر، وأما رواحلنا فطاردناك بها أباك يوم حمراء الأسد، وكان حليماً رضي الله عنه فسكت، فقال: فماذا تريدون مني؟ قال: نريد أن تعطينا كما أعطيت الناس، فقال معاوية: ما أوصاكم الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء؟
قالوا: نعم أوصانا بأن نصبر حتى نلقاه على الحوض، قال: فاصبروا حتى تلقوه على الحوض، فرجع البكاء كما كان في الأنصار رضوان الله عليهم، لأن معاوية احترمهم وقدَّرهم ورفع منزلتهم.
هذا موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في حنين مع الأنصار -رضوان الله عليهم- فهم أفضل الناس بعد المهاجرين بالإجماع.