للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[البصيرة في الدعوة]

الأمر الثاني: كيف يدعو أهل الحديث إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؟

ذكر الله أن الدعوة تكون على بصيرة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:١٠٨] قال أهل العلم البصيرة هي: العلم، وزاد ابن تيمية: والحكمة.

العلم هو البصيرة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لما أرسل موسى وهارون إلى طاغية الدنيا؛ إلى فرعون، فيوصيهما وهما في الطريق: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤] وقد يوجد من أهل الحديث -لأنهم ليسوا معصومين- من يشتد ويغلظ في دعوته، فيكون فظاً غليظاً في رده، وفي كلامه، وأمره، ونهيه، ودعوته، وهذا خلاف دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] ويقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩].

دخل رجلٌ من الوعاظ على هارون الرشيد، فقال: اسمع إليَّ، وتحملني فإني سأقول كلاماً شديداً.

قال: كلامٌ شديد! قال: نعم.

قال: والله لا أسمع، والله لا أسمع، والله لا أسمع.

قال: ولمه؟ قال: أرسل الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌ مني فقال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤].

فلماذا القول الشديد؟

ترجم الذهبي لـ قتادة بن دعامة السدوسي؛ راوية الصحيحين، الجهبذ، العلامة، الذي يقول ابن المبارك فيه: إذا أطفأ الدهر حفظ أحدٍ فما أطفأ حفظ قتادة فهو حافظ، بارعٌ من الدرجة الأولى.

جلس عند سعيد بن المسيب، فقال سعيد: اقرأ عليَّ شيئاً من القرآن، قال: خذ المصحف، قال: فسمعت له سورة البقرة، فما نسي حرفاً منها في مجلسٍ واحد.

وكان يسرد الحديث سرداً.

حتى في ترجمة ابن سيرين: أن رجلاً أتاه، فقال: رأيت البارحة في المنام حمامةً، التقطت درةً، فأخرجتها أكبر مما أدخلتها، ثم أخذتها فأخرجتها أصغر، ثم أخذتها فأخرجتها كما أدخلتها، فتبسم ابن سيرين؛ وكان مؤيداً في الرؤيا كما يقول الذهبي، وقال: تدري ما تأويلها؟ قال: لا، قال: أنا وقتادة والحسن البصري؛ أما الحسن البصري فيسمع الحديث فيوشيه، ولا يزيد فيه، ولا يكذب، لكن يشرحه فيخرج أكثر، وأما أنا فأخاف من حفظي، فأقلل وأنقص من الحديث، وأما قتادة فيحفظه كالسهم فيخرجه مثل ما حفظه.

فالشاهد أن الذهبي ترجم لـ قتادة وقال: فيه بدعة؛ وهذه البدعة هي بدعة القدر.

قال: ولكنه رأسٌ في القراءة، رأسٌ في العلم، رأسٌ في الحديث، رأسٌ في الورع، ومع ذلك فلا ننسى بدعته، ولكننا نغمر سيئاته في بحار حسناته.

فالمقصود العدل، لأن الله عزوجل طالبنا بالعدل في الردود، وطالبنا بالعدل في الكلام مع الناس {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:٨]؛ فالعدل في القول، يقول ابن تيمية: إن الإنسان من طبيعته ظلوم جهول، كما سماه الله، فهو يتكلم بلا علم ويتكلم بلا عدل، فحق على العالم وطالب العلم، خاصة طالب الحديث أن يكون عالماً عادلاً، وأن ينزل الناس منازلهم كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم معلقاً عند مسلم وموصولاً عند أبي داود {كان صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم} وصح من قوله: {أنزلوا الناس منازلهم} فهذه مسألة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>