للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[صلة الرحم]

وأعظم ما يزيد في العمر ويبارك في الحياة صلة الرحم, وأعظم ما يقطع الحياة ويعكر الوداد, ويقسي القلوب ويضيع الأوقات قطيعة الرحم، وقد لعن الله قاطع الرحم في القرآن مرتين, وقاطع الرحم قطع الحبل الذي بينه وبين الله.

أتى رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والحديث عند مسلم قال: {يا رسول الله إن لي قرابة أحسن إليهم ويسيئون إليّ, وأحلم عنهم ويجهلون عليّ, فماذا أفعل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن كنت كما قلت فلا يزال معك من الله ظهير, وكأنما تسفهم المل} المل: الرماد الحار, ويقول: الله ينصرك ما دمت على ما قلت.

يقول أبو جعفر المنصور لوزرائه وهو يسمر معهم: "ما أحسن أبيات العرب! -يعني: قصائد قالتها العرب- قالوا: ما ندري, قال: أحسن الأبيات قول المقنع الكندي:

وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا

أراهم إلى نصري بطاءً وإن هم دعوني إلى نصر أتيتهم شدا

إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا

أما قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام فاسمع ماذا فعلوا؟ أخرجوه من داره, في مكة , حاربوه في أكثر من سبع عشرة غزوة, قاتلوه, سبوه, شتموه, ضربوه, كسروا ثنيته, أسالوا دمه, ما تركوا مكيدة في الدنيا إلا دبروها, فلما انتصر عليهم طوقهم بالجيش وهم جلوس في الحرم, فقال: ماذا ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم, قال: غفر الله لكم، فتباكوا يقول جابر: [[حتى اختلطت أصوات بكاء الشيوخ بالأطفال وبالنساء, فقام أبو سفيان فقال: لا إله إلا الله ما أبرَّك! ولا إله إلا الله ما أوصلك! ولا إله إلا الله ما أرحمك! ولا إله إلا الله ما أحلمك]] فيقول الله له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] وقال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨] هذا رسولنا عليه الصلاة والسلام, الرسول العظيم الذي أتى بالخلق حياةً واقعية في حياة الناس وضمائرهم.

أتته أخته من الرضاعة وهو في الطائف وهو يوزع الإبل على الناس, فأتته وهو يتظلل من الشمس, وكانت عجوزاً قد نسيها عليه الصلاة والسلام، وكانت رضعت معه في بادية بني سعد قريباً من الطائف وهو طفل صغير , وعمره حين جاءته ما يقارب خسمين سنة, فأتت تشق الصحابة, واستأذنت عليه وهو يوزع الغنائم, فقالوا: يا رسول الله! هنا عجوز تقول: هي أختك من الرضاعة, قال: مرحباً بأختي, وقام من بين الناس فعانقها وبكى وهو يعانقها, وقال: حياكم الله, كيف حالكم؟ كيف أهلكم؟ وأخذ يسألها, ثم أجلسها مكانه, وقام يظللها من الشمس, فقال: أتريدين أن تعيشي معي, أو تعودي إلى أهلك؟ -يعني: هل تريدين البقاء معي, وأبقى أنا الأخ الوصول- فقالت: تريد العودة إلى أهلها, فأخذ مائة ناقة من أحسن الجمال ومن أحسن النوق وأعطاها, وقال: تزوريننا, أو كما قال عليه الصلاة والسلام, ثم أخذ يشيعها حتى اختفت عن العيون فأخذ الصحابة يتباكون من هذا المنظر.

أوصل الناس وأبر الناس وأرحم الناس, نسأل الله أن يوفقنا لاتباع سنته, ويجعلنا على طريقته حتى نلقى الله عز وجل ونحن أخيار بررة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>