للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[القسم الثاني: قسم شدد على نفسه]

وقِسْمٌ قالوا لمن قبلهم: أخطأتم كل الخطأ، هذا ليس من الدين، وقد انفسختم من الدين، الدين أن تظهروا بما ظهرنا به، فأتوا فأكثروا على أنفسهم في العبادة، وهو شيء محمود؛ لكن ليس المقصود من العبادة هو التشديد على النفس وقتل النفس.

ثم أتوا ببعض المسائل التي هي من السنة، فأقاموا الدنيا وأقعدوها على هذه الأمور، فالناس يكبرون تكبيرة، ويكبرون هم اثنتين، ويتوضأ الناس ثلاثاً، وهم يتوضئون أربعاً، ويستنشق الناس ثلاثاً ويستنشقون أربعاً، ويضع الناس أيديهم على صدورهم في الضم في الصلاة، ويضعون هم أيديهم في حلوقهم، وإزرة المؤمن إلى نصف الساق، فيجعلونها إلى الركبة.

ثم يظن بعضهم أن معنى الإسلام: أنك تظهر بمظهر التقشف، وتُري الناس كأنك زاهد في مظهرك، الثوب -الحمد لله- بخمسين ريالاً.

وبعضهم يأكل من الوجبات أكثر بكثير، ولكنه يُقْتِر على نفسه، وتجد عنده بيتاً طويلاً عريضاً، أو قصراً من القصور؛ ولكن إذا ظهر إلى الناس ظهر بثوب رخيص، ولماذا تظهر للناس كذلك؟ حتى يشيروا بأنك زاهد؟!

نحن أمة جميلة، الله جميل يحب الجمال، الله طيب يحب الطيب، جَمَّل الكون سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، حتى السماء ما جعلها مظلمة، جعل فيها كواكب، جعل فيها نجوماً، أبدع سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتى إنك تدخل البستان الواحد وفيه الحدائق الغناء والورود والزهور، وتسمع صرير الطيور وخرير الماء.

فلماذا لا يكون الإنسان جميلاً كما كان صلى الله عليه وسلم جميلاًَ؟

هل من الأحسن أن يأتي الإنسان منفوش الرأس، غير مُسَوٍّ لغُتْرَتِه، ولا هندامه، ولا عليه ما يستره أمام الناس؟ ثم يأتي يرى أن كَيَّ الغترة وكيَّ الثوب يخرجه من السنة، معنى ذلك: أن يكون في فوضى، أنا لا أقصد فئة من الناس، وربما هم أفضل منا وأحسن وأعلم وأفقه، لكن نحاكمهم إلى السنة، إلى محمد عليه الصلاة والسلام.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس البُرْدَة الحَبِرَة بألف دينار، ويَتَبَدَّى أمام الناس، يَمُر من الشارع إلى الشارع الآخر، فتُشَمُّ رائحة المسك منه صلى الله عليه وسلم، يلبس أحسن ما يجد، وربما يتقشف أحياناً؛ لكن أن نظهر للناس ونقول: نحن زهاد، انظروا إلينا، انظروا إلى ثيابنا، انظروا إلى مساويكنا، انظروا كيف نصلي، فهذا ليس من الحكمة، هذا معناه: أننا نشهر بأنفسنا.

لماذا لا نكون وسطاً في أمورنا؟

وسطاً في عبادتنا؟

وسطاً في تعاملنا؟

وسطاً في أخذنا وعطائنا؟

لِعِلْمِكُم: الخوارج الذين خرجوا من الإسلام كانوا أكثر من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي صلاةًَ في الليل، وأكثر قراءة للقرآن، وأكثر صياماً.

يقول عليه الصلاة والسلام: {تحتقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية}.

لماذا؟ لأنهم ما عاشوا العلم.

فمَفاد العبادة: أنك تتزود من الحسنات فقط، ولكن العلم يُفَتِّح ذهنك، ويظهر لك تجارب الأمم، ويظهر لك المنقولات من الكتاب والسنة، ويظهر لك الخطأ من الصواب، فتكون على بصيرة، ولذلك بُعِث صلى الله عليه وسلم معلماً.

فهذا القسم أو هذا المسار لا يُحمَد، وليس مساراً طيباً، وقد طَوَّل ألْسِنَة المنافقين على أهل الخير والدعاة والأخيار.

حتى يقول هؤلاء المنافقون: انظروا إلى الإسلام، الإسلام تقصير الثوب إلى الركبة، والسواك بِطُوْل شِبْرَين، وعدم كَيِّ الغُتْرة، ووضع اليد في الحلق أثناء الضم في الصلاة، ثم تفريج الرجلين، حتى يكاد يسقط، إلا أن يتغمده الله برحمته، وإذا اقتربتَ منه في الصف في الصلاة شَدَّك حتى تسمع لثوبه قعقعة، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {استوُوا} فكان الناس يَسْتَوُون سواءً فإذا سجد مد نفسه حتى يصل إلى آخر الجدار، فإذا أراد أن يرجع أعانه الله عز وجل على الرجوع للركعة الثانية.

فهذا ليس بشيء، ونتحاكم إلى السنة، وهذه كتب الحديث أمامنا أيها الإخوة.

فذاك الصنف الذي ضيع الإسلام، وعاش على المجلة الماجنة والأغنية الماجنة، ضاع في الدنيا والآخرة.

وهذا الصنف أظهر أن الإسلام يكمن في صورته هو، وأنه مع الإسلام، وأن الإسلام ليس بجميل، وأن معناه: أن تقطب وجهك، وأن تغضب، وإذا سلمت على الناس لا تتبسم؛ لأن التبسم يخالف الزهد والورع والوقار.

كان ابن سيرين يضحك في النهار حتى يتمايل، فإذا أتى الليل بكى حتى يسمع الجيران بكاءه من خشية الله.

وكان أشرف الرسل عليه الصلاة والسلام إذا لقي الناس يتبسم، حتى أن أبا هريرة يقول: {والذي نفسي بيده لوجهه كأنه البدر ليلة أربعة عشر} ويقول أيضاً: {كأن الشمس تجري في وجهه} , ويقول جرير بن عبد الله: {ما رآني إلا تبسم في وجهي}.

وعائشة رأت شباباً يَنْضُون، أي: يَتَماوَتُون، رأتهم وهم ماشُون في الطريق وهم ينكسون رءوسهم، ويمشون بالهدوء، كأنهم نملة على الأرض، يسبحون، ويتنحنحون، فأشرفت عليهم، فقالت: مَن هؤلاء؟ قالوا: عُبَّاد، قالت: عليَّ بهم، فأتوا، وهم شباب بادئون، فلما اقتربوا منها، قالت: مَن أنتم؟ قالوا: عُبَّاد ونُسَّاك، قالت: كذبتم، -والله- لكان عمر أعبد منكم، وأنسك، وأخشى لله، كان إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع.

<<  <  ج:
ص:  >  >>