أما عفوه وصفحه عن الناس وعن الذين أساءوا إليه فلا يوصف أبداً، كان يقول قبل أن يموت:"عفا الله عن كل من أساء إلي، عفا الله عمّن اغتابني، عفا الله عمّن شتمني، عفا الله عمّن آذاني" يقول ابن القيم في مدارج السالكين: أتيته: فبشرته بوفاة أحد العلماء من أعدائه -هذا العالم كان عدواً لـ شيخ الاسلام حتى أفتى بقتل شيخ الإسلام ابن تيمية ورفع ورقة للسلطان وقال: إن قتله من أوجب الواجبات ومن أوثق عرى الدين، فلما مات هذا العالم أتى ابن القيم يبشر شيخه شيخ الاسلام.
قال: فوجدته في المسجد ومعه الناس، فقلت: ماذا أبشرك به؟ قال: بخير إن شاء الله، قلت: توفي فلان بن فلان، قال: فدمعت عيناه، قال: أتبشرني بموت مسلم! إنا لله وإنا إليه راجعون! قوموا بنا إلى أهله لنعزيهم، قال: فوالله لقد قمنا معه ومضينا، فلما أتينا إلى بيت أهله طرقنا عليهم الباب فلما رأى أبناء ذاك العالم وعرفوا أن أباهم قد أفتى بقتل ابن تيمية وقد آذاه وسجنه مرات قال: لقد قاموا يجهشون بالبكاء، فقال ابن تيمية أنا أبوكم بعد أبيكم، إن احتجتم شيئاً فهو عندي وأنا إن شاء الله معكم وفي صفكم وفي جانبكم، قال: فبكوا كلهم وحتى الناس الذين معه من هذه الأخلاق العالية.
هذا هو ابن تيمية القرآن الذي يمشي على الأرض، ولا يزعم الناس أنا نتعصب، وبعض الناس يقولون: يقدسونه! لكن الإنسان يتخلى عن العصبية ويطرح هذه الأفكار التي لا تمضغها تلك الأدمغة اليابسة، وينظر بحق وإنصاف إلى هذا الرجل، فإن وجد مثله من عصره إلى الآن فليخبرنا، بل شهد كتاب غربيون كفرة ملحدون بتفوق هذا الرجل وعبقريته.
أما من كلامه وإرشاداته فيقول:"لا بد للسائر إلى الله من نظرين: نظر ينظر به إلى جلال النعمة، ونظر ينظر به إلى عيب النفس والعمل".
وسئل مرة من المرات، ما هي الاستقامة؟
قال:"لزوم الكرامة".
دخل قلعة دمشق مسجوناً -رضي الله عنه- ودخل معه بعض أقاربه، قال ابن القيم:"سمعت أن ابن تيمية ختم القرآن في سجنه الأخير أكثر من ثمانين مرة، فلما بلغ قوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}[القمر:٥٤ - ٥٥] فاضت روحه" وانظر إلى المقطع الذي وقف فيه وانظر إلى هذا الإيحاء قال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ}[القمر:٥٣] آخر سورة "اقتربت الساعة"{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}[القمر:٥٥] "فاضت روحه قال: فأكمل بعض القراء إلى آخر القرآن، توفي وسلطان الشام غائب يصطاد في البرية ونائبه موجود وتوفي وهو مسجون ومن أراد أن ينظر إلى الدهش المدهش وإلى الذهول المذهل، فلينظر إلى ترجمة وفاته ومراسيم تجهيز جنازته في البداية والنهاية لـ ابن كثير أو في غيره من الكتب.