مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة، فوجد ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قبل أن يسلم، وهو غلامٌ يرعى الغنم، فطلب منه صلى الله عليه وسلم شيئاً من لبن، فاعتذر بأنها كلها حوائل، فقال:{قرب لي شاةً منها، قال: إنها حائل -أي: ليس بها لبن- فقال صلى الله عليه وسلم: وإن كان، فلما قرب الشاة إليه، مسح صلى الله عليه وسلم على ضرعها، وسمى وبرك، وقرأ شيئاً من القرآن، فقال ابن مسعود: علمني من هذا -ولم يعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: إنك غلامٌ معلم} فأسلم رضي الله عنه وأرضاه، فزاده الإسلام نوراً، وذكاءً وتوقداً وانطلاقةً كبرى ما شهد التاريخ مثلها لجيل إلا لذاك الجيل.
بل سمع سورة الرحمن فحفظها من أول مرة، وذهب بها إلى الحرم، وأصنام الضلالة، وعملاء الجهالة، من أمثال أبي جهل وأبي لهب، في حلق الحرم يصدون عن كتاب الله، وعن رسالته وعن بيته، فقام يقرأ عليهم سورة الرحمن، وأخذوا يضربونه على وجهه الكريم، فما قطعها حتى انتهى منها، ثم سقط مغشياً عليه في الأرض.
لقد كان دقيقاً في بنيته، ولكن هذا الدين، وهذا القرآن يصنع العجائب في الناس، يقول المؤرخون: كان ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، إذا قام ساوى الرجل الجالس، أي: أن قامته تساوي الرجل الجالس، ولكن علم الله ما في قلبه من إيمان، وما في روحه من إخلاص، وما في نفسه من صدق، فرزقه الله المثوبة، وأعطاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما تمنى من السعادة.
صعد شجرةً ذات يوم، فأخذت الريح تهز أغصان الشجرة وهو عليها كالعصفور، فتضاحك الناس من دقة ساقيه ونحافة جسمه، فقال عليه الصلاة والسلام:{أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده، إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد} هنا العظمة يوم تكون العظمة بالقلوب، وهنا القوة يوم تكون القوة بالأرواح، يوم يتساقط الأشقياء، ولو كانت أجسامهم كأجسام البغال:
لا بأس بالقوم من طولٍ ومن قصرٍ جسم البغال وأحلام العصافيرِ
ووصف الله أعداءه وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون:٤] ما دخلها القرآن، وما استضاءت به، ولا عرفت رسالته القرآن، فهي تأكل وتشرب وتتنعم وتتكلم وتتمتع؛ لكن في مسالخ البهائم.
يقول عليه الصلاة والسلام، وهو يجلس مع التلميذ البار، مع ابن مسعود:{اقرأ عليَّ القرآن -فيخجل رضي الله عنه وأرضاه، ويستحي أن يقرأ أمام معلم البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية- فيقول: يا رسول الله! كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: اقرأ فإني أحب أن اسمعه من غيري، فيندفع رضي الله عنه وأرضاه في خشوعٍ يقرأ فلما بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}[النساء:٤١] قال عليه الصلاة والسلام: حسبك الآن، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فنظرت إليه صلى الله عليه وسلم وإذا عيناه تذرفان} هكذا كانوا يعيشون مع القرآن ويحيون معه!! والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} ومفهوم المخالفة: أن شرنا وأحمقنا وأضلنا من ضيع القرآن ولم يعمل به ولم يتدبره أو يحكمه.