للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معنى عذاب الميت ببكاء أهله]

في الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه لما حضرته الوفاة قال لأهله: {إني أحذركم أن تنوح علي نائحة، فإني أبرأ مما برئ منه صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما الذي برئ منه صلى الله عليه وسلم؟ قال: برئ من النائحة والصالقة والحالقة والشاقة} وفي حديث: {النائحة إذا لم تتب توقف يوم القيامة وعليها درع من قطران وسربال من جرب} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي حديث ابن عمر: {الميت يعذب ببكاء أهله عليه} وسوف تأتي مسألة: هل الميت يعذب ببكاء أهله إذا بكوا عليه، وما هو هذا العذاب، وما هي أقوال أهل العلم والراجح؟

أما مسألة هل الميت يعذب ببكاء أهل عليه؟ فقد ورد من حديث عمر وابن عمر والمغيرة بن شعبة وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم بألفاظ متقاربة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه} وهذا الحديث أصل في المسألة، وقابل أهل العلم هذا النص وغيره من النصوص بأقوال، كلهم يريد الخير والحق والصواب لكن بعضهم مصيب له أجران، وبعضهم مخطئ له أجر واحد، فهي ستة أقوال.

القول الأول: قول من قال: الباء هنا حالية فمعنى، ببكاء أهله عليه أي: في حالة بكائهم عليه، أي: يعذب الوقت الذي يبكون عليه، نسأل الله العافية والسلامة، وأن يثبتنا الله يوم يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة والدنيا والآخرة، ففهم أنه ما أن يوضع في القبر ويبتدئ بكاء أهله عليه إلا ويعذب، فالباء هنا حالية، أي: حالة كونهم يبكون فهو يعذب، وهو رأي متأخر.

والقول الثاني: أن هذا خاص بالكافر، أن الكافر هو الذي يعذب ببكاء أهله عليه، وأما المؤمن فلا يدخل في ذلك، وهذا رأي لـ عائشة رضي الله عنها، ولها كلام آخر يخالف هذا الكلام في عمومه، تقول: [[والله ما كذب ابن عمر، ولا كذب أبوه ولكنهم أخطئوا]] لأنهم يقولون بهذا الحديث: {إن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بقبر من قبور اليهود فإذا به يعذب فقال: إنه يعذب ببكاء أهله عليه -وفي لفظ- مر على يهودية يبكي عليها أهلها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها}.

فعلى هذا الرأي يكون العذاب خاصاً بالكفار ولا يدخل فيه المسلمون.

القول الثالث: يعذب الميت مطلقاً سواء كان مسلماً أو كافراً إذا بكى عليه أهله، وهو رأي لـ أبي هريرة كما في مسند أبي يعلى بسند مقبول قال: يقول أبو هريرة: [[والذي نفسي بيده، إن الشهيد ليخرج في سبيل الله أهريق دمه، وقتل جواده، فتبكي عليه سفيهة فيعذبه الله ببكاء هذه السفيهة]] هذا رأي لـ أبي هريرة.

القول الرابع: يعذب إذا أمر بذلك وأقره ولا يعذب إذا نهى، وسوف يأتي الترجيح.

القول الخامس: العذاب توبيخ من الملائكة لحديث أبي رافع عند أحمد: أن رجلاً أغمي عليه فأخذت أخته تصيح تقول: وا عضداه! وا ناصراه! وا حبيباه! وا سنداه! وا كاسياه! وا مطعماه! فلما استفاق قال: والله ما قلت كلمة إلا قال لي الملك: أأنت تطعمها؟ أأنت تسقيها؟ أأنت تتكفل برزقها؟ يوبخه الملك فمعنى العذاب هنا: التوبيخ.

القول السادس: يتألم الميت لبكائهم، فهو لا يعذب وإنما يتألم ويصيبه مرارة وألم ولا يرتاح في قبره لأنهم يبكون عليه، وهذا رأي الطبري والقاضي عياض وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن تيمية صرح بهذا وقال: إنما ألم لا عذاب.

والراجح هو الرأي الرابع: وهو الذي دلت عليه النصوص ورجحه كثير من المحدثين، وعليه سياقات الأحاديث والاعتبارات والشواهد التي تسانده في صحيح البخاري وصحيح مسلم وهو الذي يقول: يعذب بالميت إذا أمر بذلك أو أقر ولم ينه، وأما إذا نهى ولم يقر فلا يعذب إن شاء الله، ولذلك كان الصحابة إذا حضرتهم الوفاة ينهون أهلهم وأصدقاءهم أن يبكوا عليهم، ويمنعونهم من ذلك لئلا يعذبوا ببكاء هذا الحي، هذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة وهو ما إذا أقر ورضي ولم ينه وهو يعلم أنهم سوف يعملون ذلك، وأما إذا نهى ولم يرض بذلك ولم يقره فإنه لا يعذب ولو بكي عليه أو نعي بعده، هذا هو خلاصة ما أتى في هذه المسألة.

وأما كلام ابن تيمية أنه يتألم، فإن نصوص الأحاديث تدل على أنه يعذب فأي قرينة تصرف اللفظ الظاهر الصريح، واللغة تؤيد أن العذاب عذاب؛ أعني أنه قد عرف من اللغة أنه يعذب؛ فنحمله كما حمله ابن عمر وعمر والمغيرة وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>