[بلال من مكة إلى بيت المقدس]
وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم في مرض الموت سمع نداء الحبيب بلال، أذن بلال بندائه الشجي، بلال يؤذن في الفتوحات والانتصارات، ففي فتح مكة المؤذن بلال، دخل صلى الله عليه وسلم مكة وسقطت مكة بيده، فقال: يا بلال! قم فأذن.
لماذا اختار بلالاً؟
ليسمع صفوان بن أمية وأبناء أمية بن خلف، ورعاديد أبي جهل، هذا الذي كانوا يسحبونه على الرمال ويعذبونه وهو يقول: أحد أحد، أحد أحد، أحد أحد وهم يذيقونه العذاب.
قم أذن؛ فارتقى الكعبة، فيقول أحد الجاهليين لأخيه: ما كنت أظن العيش يطول بي حتى أرى هذا الغراب الأسود يؤذن من على الكعبة! ويقول الآخر: إن من الفوز للوليد أنه مات قبل أن يرى هذا الأسود يؤذن ويصيح من على الكعبة.
لا والله إنه صوت الحق، وأذن بلال فبكى المسلمون، ومرة ثانية أذن بلال في بيت المقدس يوم شهدها وقادها عمر هناك.
خرج عمر ليأخذ مفاتيح بيت المقدس، فما خرج بحرس ولا بجنود، حارسه الله، كان قلبه معه يحمل التوحيد، قال لمولاه: [[أنا وإياك على الناقة.
فقال عمر للمولى -ودائماً عمر عادل حتى في السفر والركوب والمشي: أنت تركب برهة وأنا برهة.
قال: يا أمير المؤمنين! أنا مولى.
قال: والله لتركبن برهة وأنا برهة، والذي ينزل منا يقود الجمل]] فقال: سمعاً وطاعة.
فكان عمر يركب قليلاً؛ فإذا تعب المولى نزل عمر وقاد الجمل وركب مولاه! يريد عمر أن يستلم مفاتيح بيت المقدس، وهذا حدث عالمي أعظم من حوادث هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن على التاريخ.
والجيوش أمامه، بقيادة عمرو بن العاص وأبي عبيدة، وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، كل واحد بجيش مثل الجبل.
لكن عمر لم يأخذ جيشاً، وانتظر الصحابة قدوم عمر وواجهوه في الطريق، فأشرف عليهم وإذا هو بثيابه القديمة المرقعة، والعصا في يده، وهو يقود الجمل، قال عمرو بن العاص: [[فضحتنا يا أمير المؤمنين]].
يقول: النصارى ينتظرونك تأخذ المفاتيح في أبهة وفي حرس ووزراء ومستشارين وفي كبار الصحابة، وتأتينا بجمل وزيادة على ذلك أنك أنت الذي تقوده!! فقال كلمة لو سمعها الدهر ووعاها، ولو وعتها القلوب وحفظتها، يقول: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].
والله لما أصبحنا أمة لموع وسطوع وألوان؛ اندحرنا والله، [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].
فأتى الصحابة وقالوا: نمشي معك يا أمير المؤمنين! قال: لا.
انصرفوا.
وذهب عمر، فخرج النصارى ليروا ويسمعوا عمر، هذا الإمام المعتبر، عمر الذي دوخ الدنيا، عمر الذي تخاف منه العجوز في حجر دارها وهي في بيت المقدس.
خرجوا على السطوح فاقترب عمر، وأتت النوبة للمولى ليركب، واقتربوا من دخول بيت المقدس، فقال مولاه: النوبة لي يا أمير المؤمنين وهي لك؛ لأننا اقتربنا من الناس.
قال: والله لا تنزل ولا أركب.
واقترب عمر يقود الجمل، فرفع ثيابه من الطين عند مدخل بيت المقدس، فتباكى الناس على أسطح المنازل.
إنه والله موقف مؤثر، بكوا من هذا الإمام العظيم، يرفع ثيابه من الطين، يالك من عظيم!! رعاك الله! ثم تقدم إلى بيت المقدس؛ فقال: يا بلال! عزمت عليك أن تؤذن هذا اليوم؛ لأن بلالاً اعتزل الأذان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قدم استقالته لـ أبي بكر وقال: والله لا أؤذن لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: كفر عن يمينك يا بلال، وأسألك بالله أن تؤذن.
فأتى بلال! فرفع صوته بأذان الفتح.
لا إله إلا الله! فبكى الصحابة والجيش جميعاً، فقد ذكرهم بالحبيب:
وداعٍ دعا إذ نحن بـ الخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائراً كان في صدري
فتوحات وتوكل على الله، والشاهد: الصلاة.
أتى صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت، فسمع بلالاً يقول: الله أكبر الله أكبر! فقام فتعثر صلى الله عليه وسلم فسقط، فغسل بالماء فأغمي عليه خمس مرات، وفي الأخير قال: مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس.
وسارت هذه الكلمة فبكى الصحابة في المسجد، أشرف رجل من طرف المسجد؛ فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
أين الإمام؟ تعطل الإمام، أين الحبيب؟ جلس الحبيب بأبي أنت وأمي!
فداً لك من يقصر عن فداكا فلا ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
قال: مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، قال: صلِّ يا عمر بالناس؟ قال: أنت أولى؛ فتقدم أبو بكر، فلم يعرف الناس ماذا قال في الصلاة من كثرة البكاء على فقد إمام يقود الأمة إلى قيام الساعة، إلى الجنة، من تخلف عن ركبه والله لا يذوق سعادة، ولو جمع أموال الدنيا.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار} والله جلت قدرته يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥].