للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حكم نسبة الشر إلى الله]

فهل ننسب الشر إلى الله! في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: {والخير بيديك، والشرك ليس إليك} وما أحسن هذا الكلام! الخير بيديك وكلتا يديه يمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهي ملأى سحاء في الليل والنهار لا يغيضها منذ خلق السماوات والأرض، قال صلى الله عليه وسلم: {أرأيتم ما أنفق الله منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض} وفي بعض الروايات: {إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر}.

قال: {والشر ليس إليك} فالذي قدر الشر والخير هو الله، لكن لا ينسب الشر إلى الله؛ لأنه من تقديره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالنسبة إليه خير محض، فهو لا يكتب الشر، لكن قد يكون شراً بالنسبة للعبد، ولذلك انظر إلى تأدب الجن، لما أرادوا أن ينسبوا الشر قالوا: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:١٠] فما أحسن المبني للمجهول! قال أحد البلاغيين: لله دركم! حتى أنتم تدركون اللغة العربية.

وقال سيد قطب في الظلال عند قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:١]: عجباً! حتى الجن يتذوقون القرآن، حتى أنتم تعيشون مع هذه الأسرار البلاغية، ولذلك قال: قالت الجن لما جلسوا في المناصب والمقاعد يستمعون وينظرون إلى الشهب وهي تحرق المردة، قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:١٠] تغير الكون، كنا نستمع الكلام فاحترقنا الآن، ولا ندري ما حدث في الكون، قال ابن عباس: اجتمع الجن في نصيبين، فقال شيخهم: انتشروا في الأرض فقد وقع الليلة شيء في الأرض، ما هو الذي وقع؟ هل هو اكتشاف القنبلة الذرية؟ أو بركان أو نزول أبولو على سطح القمر؟ أو انشقاق البحر؟ لا: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:١ - ٢] إنه رجل أمي خرج من الصفا في مكة يقود البشرية إلى جنة عرضها السماوات والأرض.

فقالوا: أُريد، وهي من أجمل ما أتى! قال: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:١٠] فهنا أتى بالفاعل وهناك جعل الفعل مبنياً للمجهول وحذف الفاعل.

وقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:٧٨ - ٧٩] فقال: خلقني الله، ورزقني الله، ويطعمني الله، ويهديني الله، ويسقيني الله، قال: (وإذا مرضت) فالذي يمرض هو الله، ولكن ما قال: والذي أمرضني، فاستحيا من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:٨٠] قالوا: عليك السلام أيها الخليل كيف تأدبت بأدب الخلة!

كذلك يقول أيوب عليه والسلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣] ولم يقل مسستني بضر، ولم يقل: أنا مريض أو أمرضتني، بل قال: مسني الضر، ويقول: لا أدري من أين جاء هذا الضر -في ظاهر الخطاب- مع العلم أنه يدري أنه لا يمسه إلا الله عز وجل، وهذا من باب التأدب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>