ودخلنا في قلب لوس أنجلوس هذه المدينة الكبيرة، فوجدنا فرقة اسمها (الهوملِْك) وهم قوم ليس لديهم بيوت، وهم فقراء.
وفي نيويورك منهم عشرون ألفاً لا مأوى لهم، فلا ضمان اجتماعي، ولا رعاية، ولا صدقة، ولا تكافل، أتظن أن الأمريكي يخرج حقيبته ويتصدق عليك؟! والله إنك لتموتن في الشارع ولن يحملك أحد، ولن يتصدق عليك أحد، ولن يطعمك أحد، هذه الفرقة طالت شعورهم وأظفارهم، وفيهم من البشاعة ما الله به عليم، كالحيوانات، عندهم كراتين ينامون عليها وسط هذه المدينة، وناطحات السحاب بجانبهم، والبنوك، والمال، والشركات السياحية، والدنيا، ومع ذلك يأخذ أحدهم القمامة ونحن نلحظه، فيفرقها ويلقيها ويبعثرها، ثم يخرج الكيك المنتن فيأكله.
مررنا بشيخ كبير عمره أكثر من مائة، سقط حاجباه على عينيه الزرقاوين، وهو أكبر أمريكي، وقد طالت أظفاره ولحيتُه، وهو يأكل ونحن بجانبه ننظر إليه من السيارة، وكأنه لا يرانا، أصبح كالحيوان الكبير أو الكلب الفحل، لم يعد يحس بشيء، أقسمت عليه، وعنده ثوب فيه من الوسخ ما الله به عليم، فقال: عندي أحد عشر ولداً، ومع ذلك لا يلتفتون إليه، فمن أين يلتفت الولد للوالد إن لم يكن لديهم شريعة من السماء؟ والمرأة تذهب إلى المطعم هي وزوجها -وقد رأيناهم- فتحاسب عن نفسها ويحاسب الزوج عن نفسه، وترتفع المعاملات القضائية، الزوجة تشكو زوجها، ويشكوها زوجها في أشياء بسيطة، فكان السبب في قيمة الفنايل أو المناشف أو الصابون الذي في البيت وتأتي المحاماة بأمور، من أين يأتي التكافل الأسري وما عندهم إسلام ولا إيمان؟! فهم يعيشون في هذا المستوى.
أما الاضطراب: فإنني سمعتُ قصصاً ورأيتُ أعاجيب، منها: أن أحد أبناء البلاد العربية رحمه الله رحمة واسعة، ذهب بسيارته، وقد كان طيب القلب، يظن أنه في بلاد الإسلام، وعندهم هناك في العرف العام في كثير من الولايات ألا تُرْكِب أحداً، ما لك وللناس، ففي أوكلاهوما قبل سنتين حين سافرنا إليها، وقف رجل تعطلت سيارته يؤشر للسيارات من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر في الثلج، ثم توفي بعد صلاة الفجر، لا تقف له سيارة، إذا تعطلت سيارتك البوليس يقف لك، أما أن تتحرى من أمريكي أو أحد الناس أن يقف لك فلا؛ لأنه يتصور أنك إرهابي معك المسدس تريد قتله، فأتى طالبٌ مسلم يدرس هناك، فمر بأمريكي فأشار إليه الأمريكي، فركب معه، فلما أركبه ذهب به إلى خارج المدينة -مدينة ريفر تايمز أو ما يشابهها- فأخرج هذا الراكب خنجراً وذبح هذا الطالب وأخذ سيارته.
وطالب آخر طُعِن، ثم سلِم ونجا، ولكن أُخذت عليه سيارتُه، وهذا الراكب قد تراه ضعيفاً أو كفيفاً أو كبيراً في السن، ومع ذلك لا تأمنه، فمعه عصابه تنتظره خارج المدينة، يشير لك وسيركب معك، فإذا وصلتَ إلى خارج المدينة تلقفتك العصابة، وذبحوك كما يذبحون الشاة، ومَن يطالب بدمك؟ ومَن تشجب؟ وإلى مَن تتجه؟ قال سبحانه:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:١١٠].
أما الرحمة فلا رحمة، يتعاملون بالدولار، إذا لم يكن عندك مال فمُت في الشارع، قال سيد قطب رحمه الله: دخلتُ واشنطن في مستشفى هناك أتعالج، ودخل رجل في المصعد، فضرب برأسه، فخرج الدم من أنفه وأغمي عليه وأخرج لسانه، فسحبه الأطباء الأمريكان يريدون علاجه، لكن قبل أن يعالجوه بحثوا في جيوبه هل فيها دولارات، فما وجدوا شيئاً، فسحبوه كالبهيمة، وأخرجوه من المستشفى.
الذي ليس عنده دولار لا يعيش هناك أبداً؛ لن تلقى علاجاً ولا طبيباً، ولا متصدقاً ولا محسناً ولا مطعماً، مجتمع يعيش بالدولار وبلا رحمة.