[ذكر الموت في الكتاب والسنة]
أما الموت في الكتاب والسنة وفي أقوال العارفين فأخذ قطاعاً كبيراً من القرآن، يقول سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:٦١ - ٦٢].
من المحاسب إلا الله؟ من المنصف إلا الله؟ من المجازي إلا الله؟ من الباقي إلا الله؟
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:٨٨] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧].
يا من أعجبه شبابه! يا من أعجبه منصبه! يا من تاه بماله! والله لقد تولوا الأموال، وتقلدوا المناصب، وسكنوا الدور، وعمروا القصور، ثم قُعروا في القبور.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} وقت الموت {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:٣٠ - ٣١] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠].
لا نفع لها لا طائل من ورائها لا قيمة لها، ضاع الشباب، ضاعت القوة، ضاعت الأوقات.
فيا عباد الله! هل من مستيقظ؟
يا أمة الإسلام! يا أبناء من حملوا لا إله إلا الله! يا أبناء من تسمع أذن البشرية لا إله إلا الله! يا أبناء من خطب على منبر الدهر بلا إله إلا الله! أنتم مطالبون بالاستفاقة من السبات:
تنبهوا يا رقود إلى متى ذا الجمود
فهذه الدار تبلى وما عليها يبيد
الخير فيها قليل والشر فيها عتيد
والبر ينقص فيها والسيئات تزيد
فاستكثروا الزاد فيها إن الطريق بعيد
يا شباب الإسلام! يا من ألهتهم المجلة الخليعة! والأغنية الماجنة! والسهرات الآثمة! والشواطئ المجرمة! والليالي الحمراء! أنتم مطالبون اليوم إلى إقبال وتوبة وصحوة واستفاقة، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦].
يقول صاحب الرسالة الخالدة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقول الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، كنا قبل الرسالة رعاة إبل، رعاة شاة، ضائعين، ظالمين، أظفارنا طويلة، شعورنا منتنة، تاريخنا متخلف، ترابيون، نعيش في الطين، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أصبح اليوم يهاجم من الذين لا يحملون أصالة ولا رسالة:
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
يقول لـ ابن عمر: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل}.
تعرف الغريب الذي يصبح غريباً، ويمسي غريباً، الموت يطرده من كل جهة، وكان ابن عمر يقول وقد روي مرفوعاً: {إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك}.
يا أهل الأعمار النضرة! يا أهل الأجسام القوية! يا أهل الفلل البهية! يا أهل المآدب الشهية! أين أنتم من القبور؟
حفر مظلمة:
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
مر الخليفة الزاهد الشاب الناصح عمر بن عبد العزيز -سقى الله تلك العظام شآبيب الرحمة والرضوان- مر في عيد الفطر -وهو خليفة المسلمين- فرأى القبور فجلس يبكي، قالوا: ما لك؟ قال: لا إله إلا الله أتدرون ماذا يقول الموت؟
قالوا: لا.
قال: يقول: وأكلت العينين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، وفصلت القدمين عن الساقين، والساقين عن الفخذين، فبكى الأمراء والوزراء وجلسوا معه.
إنه استيقظ، وعرف طريقه، ولذلك في حديث عنه صلى الله عليه وسلم بسند لا بأس به: {الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {مالي وللدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كرجل استظل بظل شجرة ثم قام وتركها}.
شاب رأسه، شابت لحيته، قال له أبو بكر في الحديث الصحيح: {يا رسول الله! أراك شبت، قال: شيبتني هود وأخواتها}.
السور الطويلة، الرسالة الخالدة، المعاني الجليلة، المستوى الضخم، العمق في الدعوة، العبادة وقيام الليل، الزهد في الدنيا، شيَّب رأسه وشيَّب لحيته.
قال ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما في قوله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:٣٧].
قال: النذير الشيب.
لكن من استيقظ بشيبه؟ من اتعظ يوم شابت لحيته أو رأسه؟
روى أهل السير أن عابداً من بني إسرائيل نظر إلى المرآة وكان قد أطاع الله أربعين سنة، ثم عصى الله أربعين سنة، فنظر وهو في الثمانين إلى المرآة، فرأى شيبه فبكى، فقال: يا ربِ! أطعتك أربعين وعصيتك أربعين، أتقبلني إذا عدت لك؟
فسمع قائلاً يقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإذا عدت إلينا قبلناك.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
والرسول عليه الصلاة والسلام دائماً يذكر الناس بالموت.
صح من حديث علي وحديث سهل وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: {والذي نفسي بيده! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً} ماذا تعلم يا رسول الله؟ يعلم الصراط، رأى الجنة، رأى النار، رأى العرض، رأى المواقف العصيبة، علم من علم الغيب ما علمه الله، لكن الذي لا يعلم يضحك كثيراً ويبكي قليلاً، الذي لا يعلم بالحشر والنشر والصراط والصحف والجنة والنار يضيع أوقاته، يضيع صلاته، يضيع زمانه، لا يعرف الصلوات الخمس في المسجد، مساجدنا بهية واسعة، مشيدة، لكن تشكو إلى الله من قلة المصلين، قال محمد إقبال:
أرى التذكير أدركه خمولٌ ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال
وجلجلة الأذان بكل حيٍ ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساحٍ ومسجدكم من العباد خالي