[كتمان الحاجة أولى من إظهارها]
المسألة العاشرة: أن كتمان الحاجة أولى من إظهارها، يقول تعالى: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:٢٧٣] فتكتم حاجتك بينك وبين الله، تفتقر فلا يشعر الناس أنك افتقرت، وتمرض فلا يشعر الناس أنك مرضت.
ذكر أهل القصص أن أبا بكر رضي الله عنه أصابه وجع في ضرسه حتى اسود جانبه، ما كان هناك مستشفيات ولا أطباء ولاخدمات، وإنما عاشوا في تلك الفترة يوجهون البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأراد الله من حكمته أن يعيشوا في تلك الفترة، لئلا يشتغلوا بهذه المشغلات والملهيات، والأمور التي جدت؛ ليتفرغوا لإبلاغ الوحي إلى الناس، فلما مرض زاره الصحابة وقد أسند ظهره على الفراش، فقالوا: يا خليفة رسول الله! نراك وجع.
قال: الحمد لله.
قالوا: ألا ندعوا لك طبيباً؟ قال: الطبيب قد رآني.
قالوا: ماذا قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد.
كيف أشكو إلى طبيبي ما بيا والذي قد أصابني من طبيبيا
قال أحد الصالحين -لما حضرته الوفاة- لابنه: يا بني! لا تشكو على أحد مصابك إلا على الله، فوالله لقد فقدت عيني هذه منذ أربعين سنة ما أبصر بها وما أخبرت بها أحداً إلا الآن.
ذكر صاحب طبقات الحنابلة وغيره من أهل العلم عن الوزير ابن هبيرة الحنبلي الكبير، صاحب كتاب الإفصاح، وهو قد تولى الوزارة في عهد الخلافة العباسية وكان من الصلحاء الأخيار عند الله عز وجل، وعظ وهو جالس على منبره فسقط على وجهه من كثرة البكاء وحج بالناس هو وجعل نفقات الحجاج من بغداد على حسابه وتركته، فلما وصل إلى منى عطش الحجيج وأصابهم من الظمأ ما لا يعلمه إلا الله، فتوضأ وصلى ركعتين وقال: اللهم ارحمنا، اللهم اسقنا.
قالوا: فوالله ما نزع من مكانه حتى تساقط الثلج والماء على الناس، فبكى، فقالوا: مالك؟ قال: يا ليتني دعوت الله بالمغفرة.
قال أحد أهل العلم: كنت جالساً مع ابن هبيرة في ديوانه، وبينما أنا جالس إذا برجل فقير دخل عليه، فقام ابن هبيرة فاستقبل الفقير هذا، وهو وزير، دولة الإسلام كلها في وزارته، بل هو من أعظم الناس، كان يملي الحديث وهو وزير، يملي صحيح البخاري وصحيح مسلم.
قال: فلما دخل هذا الفقير عليه قام له وحياه وأجلسه ثم أعطاه حلةً، وأعطاه شيئاً من المال وقام ومسح على رأسه، ثم خرج الفقير، فقال له الناس وهم في ديوانه جالسين: مالك -أطال الله بقاءك- مسحت على رأسه؟ قال: أتدرون ما قصتي وهذا الرجل؟ لقد عرفته وما عرفني.
قالوا: كيف؟ قال: كنت أنا وإياه شباب فضربني على رأسي فأبطل عيني هذه، فما أرى بها منذ ثلاثين سنة، فلما دخل عليَّ الآن تذكرته وعرفته فمسحت على رأسه وعفوت عنه؛ ليعفي الله عني يوم يجمع الله الأولين والآخرين، فتباكى الناس، وهذا من كتمان المصائب والبلايا.
كيف أشكو إلى طبيبي ما بيا والذي قد أصابني من طبيبيا
ودخلوا على شيخ الإسلام وهو مريض فقالوا: ماذا أصابك؟ قال:
تموت النفوس بأوصابها ولم يدر عوادها مابها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
فالشكوى إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولذلك كان الأنبياء والرسل إذا بلغ الحزام الضبيين، والسيل منتهاه، وانتهى الأمر إليه، فوضوا الأمر إلى الله، قال إبراهيم: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في حالة -يوم أحد - لا يعلمها إلا الله، وقد قتل سبعون من أقاربه وأعمامه وأصحابه، وبعدها يأتي يهودي استؤجر بشعير فيقول: إن الناس قد جمعوا لكم، فرد الرسول صلى الله عليه وسلم رشده ودعواه والتجاءه إلى الله وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فكان ماذا؟ {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:١٧٤].
وقال يعقوب وقد بكى حتى -كما في بعض التفاسير- كان يوصيه جبريل بالصبر على يوسف فما يستطيع أن يصبر، فيجعل كفه على فمه ويقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:٨٦] ولذلك قالوا في ترجمة أبي بكر رضي الله عنه أنه كان إذا وصل إلى هذا المقطع في صلاة الفجر خار من البكاء: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦] ويقول قبلها: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨] فمن أصابه شيء أو ضر فليلتجئ إلى الحي القيوم، فإنه هو الرزاق، والنافع والضار، وإن مقاليد الأمور بيده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لا يتصرف في ذرة متصرف إلا بأمره وقدرته تبارك وتعالى.