للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أسس رابطة السماء التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم]

الأولى: أن التباذل فيها بفضل الواحد الأحد، قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] فيتساقط أبو لهب وأبو جهل والوليد بن المغيرة وهو من أشرف أسر مكة، ومن أشرف بيوتات العرب، ويثبت بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي لأن الرابطة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

الثاني: انتصار هذا الرابطة بين الدنيا والآخرة.

فهي ليست رابطة أرضية ولا اشتراكية، ولا شيوعية، ولا قومية، ولا بعثية، ولا ناصرية، حدودها القبر، فهي تصل إلى القبر ثم تنتهي، أما رابطتنا فقبل القبر وفي القبر وبعد القبر، وحتى نصل إلى الله.

في كفك الشهم من حبل الهدىطرفٌ على الصراط وفي أرواحنا طرف

سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا

فهي رابطتنا التي تصلنا بالله، ولذلك ذكر الله هذه الرابطة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله عز وجل يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي}.

أين المتحابون بجلالي؟ أين أهل القلوب المتعانقة والأرواح المتآخية؟

اليوم جزاؤهم وثوابهم أن يظلوا في ظل الله يوم لا ظل للكيانات والأنظمة الوضعية، فهذه ميزة الرابطة.

الثالث: أنها رابطة ذات مقتضيات ومتطلبات، القيام بها واجب، وتركها حرام منكر.

ومن أتى بهذه الواجبات؟ هو محمد عليه الصلاة والسلام.

ما هو ثمرات هذا الإخاء؟ أموائد المجتمع عليها؟ أم تحقيق طموحات أرضية؟ أم حكم بلد؟ أم حزب له أطماع اقتصادية؟

لا.

ثمرته عقيدة، لأن الأخوة من أوثق عرى الإيمان؛ قال سبحانه: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٦٧].

وعن ابن عمر موقوفاً عليه قال: [[والذي نفسي بيده! لو أنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله، وصمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة، ولا أبغض أهل المعصية؛ لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]].

فأوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله، فهذه ثمرتها، وبيَّن صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فقال كما في الصحيحين عن أنس: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ومنها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله} لا لجنسه، ولا لأسرته، ولا لنسبه، ولا لماله؛ ولكن لأنه عبدٌ لله؛ ولأنه قريب من الله.

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كلامه عن الولاء والبراء والحب والبغض: أن هذا الحب نسبي يتجزأ، وأنك تحب هذا بمقدار قربه من الله، وتبغضه بقدر ما فيه من معصية، فقد يجتمع في الشخص الواحد حب وبغض، تحبه من جانب طاعته، وتبغضه من جانب معصيته: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:٣].

ولا يجوز الإسراف في البغض ولا في الحب، وهذا مذهب متطرف لايرضاه الله، وكثير من الناس يعتنقونه، حتى في صفوف طلبة العلم والدعاة، فإن رضي عن شخص غض عن سيئاته، وإن غضب على شخص ترك حسناته ونسيها، وهذا خطأ، وهناك حديث في الأدب المفرد وهو من كلام علي رضي الله عنه -ولو أن بعض أهل العلم يراه من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام- يقول: [[أحبب حبيبك هوناً ما؛ فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما؛ فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما]].

فالاعتداء في الحب يعمي عن معرفة النقص، والخطأ والاعتداء في البغض يعمي عن معرفة المحاسن، وكلا هذين الطرفين خطأ، والوسط هو المطلوب: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:٢١٣].

ولقد جعل الله عز وجل ميزاناًَ للإخاء، وميزاناً للحكم، وميزاناً للعدل بين الناس، فيما يسمى مبدأ الجرح والتعديل، فقال في العدو: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:٨] وقال في القريب: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:١٣٥].

فالقريب كل القرب لا تحملك قرابته لك أن تنسى سيئاته، والبعيد كل البعد لا تحملك عداوتك له أن تنسى حسناته؛ بل العدل هو المطلوب وهو الميزان الذي أنزله الله لأفكار ومعتقدات الناس وحكمهم، وأنزل معه السيف.

<<  <  ج:
ص:  >  >>