ويأتي عليه الصلاة والسلام والحديث عند البخاري ومسلم من حديث أنس وغيره، فيقف على المنبر يوم الجمعة يخطب الناس، لكن بكلام يحيي به الله القلوب.
ما بنى جملةً من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمةً من عفاء
فهو أصدق الناس، وأخشى الناس وأعلمهم وأخلصهم، يتكلم في خطبة الجمعة، وكان ذاك الجو صائفاً شديد الحر؛ السماء ترسل أشعتها كالنار، ليس في السماء سحاب ولا غيم، والناس في قحط لا يعلمه إلا الله، وبينما هو في أثناء الخطبة- بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام -إذا بأعرابي يدخل من باب نحو دار القضاء-باب من أبواب المسجد- فيقطع هذا الأعرابي خطبة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقول:{يا رسول الله! ضاع المال، وجاع العيال، وقحطنا، فادع الله أن يغيثنا، فقطع صلى الله عليه وسلم الخطبة مباشرة ورفع يديه، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا قال أنس راوي الحديث: والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع شيء، فثارت من وراء سلع سحابة صغيرة كالترس- والترس مجن يحمله المقاتل يحميه من ضربات السيوف -فانتشرت كالجبال على سماء المسجد وسماء المدينة، ثم أبرقت وأرعدت وأمطرت بإذن الواحد الأحد، فوقع الغيث على المسجد، فخر الماء على الخطيب صلى الله عليه وسلم، وأخذ الماء يتحدر على لحيته، وهو يتبسم ويقول: أشهد أني رسول الله}.
ونقول له: نشهد أنك رسول الله، وأنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، وأنك أخرجت القلوب من ربقة التقليد والتبعية والخرافة والوثنية، وأحييت أمة، ورفعت للعدل منبراً، وأنك سللت للإسلام سيفاً، فصلى الله عليك وسلم تسليماً كثيراً.
ويستمر الغيث أسبوعاً كاملاً، وتسيل الأودية، ويأتي ذاك الأعرابي أو غيره في الجمعة الأخرى، والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب في الناس والغيث ينزل والمطر يواصل، فيقطع خطبته مرةً ثانيةً، ويقول: يا رسول الله! جاع العيال- أي: جاعوا من كثرة الأمطار، قبل أسبوع جاعوا من القحط والجدب والجوع، واليوم جاعوا من الحصار الذي أحدثه المطر بإذن الله فأصبحوا في البيوت -قال: وتقطعت السبل، وضاع المال، فادع الله أن يرفع عنا الغيث، فتبسم عليه الصلاة والسلام.
قال بعض أهل العلم: تبسم إما للموافقة لأن هذا الأعرابي يقطعه مرتين في موقفين، وقيل: تبسم من قلة صبر الناس، ما صبروا على الجوع والظمأ، وما صبروا على استمرار المطر والغيث، فيرفع عليه الصلاة والسلام كفيه الشريفتين، فهل يقول: يا رب! ارفع عنا الغيث؟ لا، هل النبي يدعو برفع الغيث؟ لا، الرحمة لا يطلب أن ترفع مهما نزلت، فهي بركة وخير ونور، فقال:{اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر} قال أنس: والله ما أشار صلى الله عليه وسلم إلى مكان إلا أخذ المطر والغيث ينحاز إلى ذاك المكان، وخرج الصحابة والمدينة في مثل الجوبة كأن عليها ثوباً مفصلاً، أما المدينة فشمس وهواء طلق ونسيم عليل، وأما حولها فأمطار غزيرة وسيول جارفة {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}[الطور:١٥].
إنه برهان على رسالته الخالدة، وهذا القصص يغرس الإيمان في القلوب حتى يصبح كالجبال، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}[يوسف:٣] وأحسن القصص سيرته عليه الصلاة والسلام وما صح عنه.