[من مواقف أبي بكر الصديق المشرفة]
وأبو بكر رضي الله عنه وقف مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي أخطر مواقف تاريخه الرسول صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر معه، وأنا أذكر ثلاثة مواقف:
الموقف الأول في الغار:
وصاحب الغار إني سوف أذكره وطلحة بن عبيد الله ذي الجود
دخل صلى الله عليه وسلم الغار هارباً من قريش، فأعلن الكفار حالة الاستنفار في مكة، وسدوا الطرق الداخلة إلى مكة والخارجة، فدخل عليه الصلاة والسلام مع صاحبه أبي بكر في الغار، وجلس عليه الصلاة والسلام هو وأبو بكر حتى طوق المشركون الغار.
ولكن حينما أراد الله أن يحفظ رسوله سخر عنكبوتاً فنسجت بيتاً على فم الغار، ومن العادة أن الإنسان إذا دخل الغار شق بيوت العنكبوت، وأتت الحمامة وبنت عشها في فم الغار وباضت في هذا العش، فأتى كفار قريش معهم السيوف تقطر حقداً وضغينةً على المصطفى عليه الصلاة والسلام، أرادوا الدخول وإذا ببيت العنكبوت، وإذا بعش الحمامة، فوجموا وقد نظم هذا المعنى بعضهم فقال:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عالٍ من الأطم
ثم صعدوا على ظهر الغار فأخذ أبو بكر ينظر فيرى أقدامهم فيقول: يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا، فيتبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الواثق الذي امتلأ قلبه إيماناً وثقة بالله، الذي يتبسم للمستقبل، يحفر الخندق في المدينة وتقع مسحاته عليه الصلاة والسلام على الصخر ويبرق من الصخر بارق فيقول: {تفتح لي قصور كسرى وقيصر إن شاء الله} فيضحك المنافقون ويقولون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، ولكن والله فتحها الله عليه وفتح ما هو أكبر وأكثر، فوصلت جيوشه إلى أسبانيا وإلى السند وإلى الهند فيقول: {يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما} وخرج من الغار بسلامة الله وحفظه ورعايته: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] ولذلك يقول أحد العلماء من المفكرين: الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لـ أبي بكر في النكبات: إن الله معنا، أتاه الفقر من كل جانب فقال: لا تحزن إن الله معنا، أتته بعض الغلبة أو ما تسمى بالهزائم فقال: لا تحزن إن الله معنا، اجتمع عليه اليهود والمشركون والمنافقون فقال: لا تحزن إن الله معنا.
والموقف الثاني في بدر: قام عليه الصلاة والسلام قبل معركة بدر بليلة واحدة، ومعركة بدر تصفية بين الحق والباطل، فوقف الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو في الليل حتى سقط برده من على كتفيه وهو يقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد اليوم} ثم أخذ يدعو عليه الصلاة والسلام ويبتهل إلى الله، فأتى أبو بكر فرد عليه البردة وقال: كفاك مناشدة لربك يا رسول الله! فو الله لينجزن الله لك ما وعدك.
قال أهل العلم: كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعرف بالله، فإن الله عز وجل يحب الملحين بالدعاء، ويحب المتضرعين والباكين، ويحب الذين يخلصون ويكثرون في الدعاء، بخلاف المخلوقين فإن أحدهم إذا ألححت عليه في الطلب غضب، أما الله فإنه كلما دعوته رضي عنك، وإذا رأيت العبد يكثر من الدعاء والابتهال فاعرف أنه مؤمن، واعرف قيم الناس وميزان الناس بكثرة دعائهم.
الموقف الثالث: يوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة وتبعه سراقة بن مالك فكان صلى الله عليه وسلم يمشي في الطريق ويقرأ القرآن ويلتفت، فيقول أبو بكر: يا رسول الله! الطلب وراءنا، قال: يا أبا بكر! لا تحزن إن الله معنا، ثم دعا على فرس ذلك في قصة طويلة، قال أهل العلم: فكان أبو بكر يأتي مرة عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ومرة عن يساره ومرة أمامه ومرة خلفه، فيقول صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! مالك مرة عن يميني ومرة عن شمالي ومرة أمامي ومرة خلفي؟ قال: يا رسول الله! أذكر الرصد -الكمين- فأتقدم ليأتيني ولا يأتيك، وأذكر الطلب فأكون خلفك وأخاف أن تؤتى عن يمينك فأتيامن، وأخاف أن تؤتى عن يسارك فأتياسر أو أتشامل أو كما قال.
وتولى الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هزيل الجسم حتى أنه كان يوتر قبل أن ينام، لكن في قلبه همة عالية تنسف الجبال، صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولما توفي عليه الصلاة والسلام كان أبو بكر غائباً عن المدينة فقد كان له مزرعة، فكان في مزرعته في عالية من عوالي المدينة معه فرس وإذا بـ المدينة ترتج بالبكاء، واختلط بكاء النساء بالأطفال والرجال، فأعظم مصيبة في تاريخ الإنسان، موت الرسول عليه الصلاة والسلام.
وإذا أتتك من الأمور مصيبة فاذكر مصابك بالنبي محمدِ
وأتاه الخبر وهو في المزرعة، فركب فرسه ومعه عصا، وأتى إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وإذا الناس يموجون مثل البحر لا تسمع ماذا تقول لسانك من كثرة البكاء، قال: مالكم؟ قالوا: توفي الرسول عليه الصلاة والسلام، فسكت وما كلم أحداً وقال: الله المستعان إنا لله وإنا إليه راجعون! فثبته الله، وشق الصفوف حتى وصل إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة التي هو مدفون فيها صلى الله عليه وسلم.
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
فدخل وكشف الغطاء عن وجه الرسول عليه الصلاة والسلام فإذا هو قد مات، فقبل وجهه، ودمعت عينا أبي بكر على وجه المصطفى عليه الصلاة والسلام ثم قال له: [[بأبي أنت وأمي؛ طبت حياً وطبت ميتاً، أما الميتة التي كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً]] ثم خرج على الناس فسكتهم وأتى إلى عمر رضي الله عنه عند المنبر في المسجد، وقد سل عمر سيفه وقال: [[من زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات ضربت عنقه بهذا السيف، إنما يغيب صلى الله عليه وسلم بعض الأيام كما غاب موسى يكلم ربه]] كما يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:١٤٢].
فأتى أبو بكر وعمر يخطب وقال: اسكت يا ابن الخطاب! ثم ارتقى أبو بكر المنبر وقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد:
فمن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ثم قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤]
فخر عمر مغشياً عليه من البكاء، يقول عمر بعد أن رشوه بالماء واستفاق: والله الذي لا إله إلا هو كأني ما سمعت هذه الآية إلا ذاك اليوم، ثم قام أبو بكر رضي الله عنه فخطب الناس خطبة في اليوم الثاني، فما استطاع من البكاء أن يتكلم، يتصور ذكريات الشباب والفتوة والحياة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، يتذكر من كان إماماً بهم وخطيباً، ويتذكر المسجد ومن بناه، ويتذكر هذا الدين ومن أتى به، فإذا هو قد مات، فما استطاع أن يتكلم لأنه يتدفق بالبكاء فقام عمر فتكلم كلمة أبي بكر وأثنى على أبي بكر.