[ما يستنبط من حديث ابن مسعود]
أولها: إن الله لا يغفر الشرك للمشرك: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:٤٨] وفي الصحيحين وفي المسانيد والسنن عن معاذ {أنه كان رديف الرسول عليه الصلاة والسلام، فسأله عن حق الله على عباده فقال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سأله ماحق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم قال: حقهم عليه ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً}
والمسألة الثانية: أن الظلم درجات، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:٣٢] يرى ابن تيمية، ويرى ابن القيم أن الأصناف الثلاثة يدخلون الجنة، والجمهور يرون أن السابقين بالخيرات والمقتصدين في الجنة، والظالمين في النار، ونحن من الظالمين لأنفسنا، فنسأل الله أن يكون التفسير على ما قال ابن تيمية لندخل معهم، من هم السابقون والمقتصدون والظالمون؟
السابق بالخيرات: من أتى بالفرائض والنوافل، وترك الكبائر والصغائر والمكروهات.
والمقتصد: من أتى بالفرائض ولكن ماتزود بالمستحبات، ومن ترك الكبائر، لكن ربما أتى بالصغائر.
والظالم لنفسه: من يترك بعض الفرائض ويأتي ببعض الكبائر.
والصحيح أن الثلاثة كلهم من المسلمين؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:٣٣] فأعاد الضمير على الثلاثة الأصناف، قيل لـ عائشة وسألها الأسود بن يزيد: -وأتى بذلك ابن القيم في كتاب طريق الهجرتين - من هم السابقون والمقتصدون والظالمون؟
قالت: السابقون هم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ومن سار معهم.
قال: زالمقتصدون؟ قالت: من تبعهم بإحسان، قال: والظالمون؟ قالت: أنا وأنت.
هذه عائشة قائمة الليل صائمة النهار؛ فكيف بنا؟
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
لكن نحن برحمة الواحد الأحد، قال رجل للحسن البصري: ذهب القوم من السلف على الخيول وبقينا نحن نركب الحمير، أي في العمل الصالح، في الزهد وفي العبادة، قال
الحسن: والله لتلحقن بالقوم ولو كنت على حمر معقرة إذا كنت على الطريق.
إذا كنت على طريق السنة لحقت بالقوم كقول الأول:
يا تقياً والتقى جلبابه
وذكياً حسنت آدابه
قم وصاحب من هم أصحابه
لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل
قال أنس: يقول صلى الله عليه وسلم: {يحشر المرء مع من أحب ونحن نحب أبا بكر وعمر ولو لم نعمل بعمليهما} أو كما قال، ونحن نشهد الله أننا نحبهم فيه، فنسأل الله أن يدخلنا بالحب، أما العمل فلا عمل، قال ابن مسعود: {لما أنزل الله قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢] قال الصحابة رضي الله عنهم أينا لم يظلم نفسه؟}.
والقضية الثالثة في هذا الحديث: أن العصمة لا تكون إلا للأنبياء، وأن من قال: من الصوفية أن الولي يكون معصوماً، فقد كذب على الله، بل إن الولي يخطئ ويذنب، ويسيء ويعصي الله ولا يكون معصوماً، وهم قالوا: الولي كلامه كالوحي لا يخطئ، ولا يذنب ولا يسئ وهو محفوظ من بين يديه ومن خلف ظهره، وقد افتروا على الله، وخالفوا النصوص، بل الولي قد يكون مذنباً ولكن يغفر الله له، باستغفاره وتوبته وعمله الصالح.
ومنها: تواضع الصحابة، فاعترفوا بالذنوب.
ومنها: أن العلماء قد يخفى عليهم بعض المسائل، وأكبر الصحابة خفي عليهم هذا اللفظ، ففسره عليه الصلاة والسلام.
ومنها أن القرآن يفسر بعضه ببعض، وهي طريقة أهل السنة كما فعل ابن كثير، فإنه فسر القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، والقرآن بلغة العرب وبكلام التابعين وتابعيهم بإحسان.
فقال: صلى الله عليه وسلم {ليس ذلكم} وفيه الأخذ بالظاهر، من النصوص مالم يرد به ظاهر، فإن الصحابة أخذوا بالظاهر فما أنكر صلى الله عليه وسلم عليهم، وإنما أرشدهم إلى المعنى الخاص للآية فقال: {ليس بذالكم، وإنما الظلم هو الشرك، أما سمعتم الله يقول: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان:١٣]}.
وفي الحديث -بالاستنباط- أن الذنوب يغفرها الله، وقد دلت الأحاديث والآيات على ذلك، وفي الصحيح ليس في صحيح البخاري ولا مسلم لكن عند الترمذي بسند صحيح، قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بشيء شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة} ومن المكفرات التي تكفر الخطأ التوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعوات المؤمنين، وسكرات الموت، والصعقة في القبر، وما يلقاه المسلم في العرصات يوم القيامة، وشفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ورحمة أرحم الراحمين.
فمن لم تدركه واحدة من هذه العشر فليبك على نفسه،
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة على غير سلمى فهو دمع مضيع
إذا لم تدرك العبد إحدى هذه العشر، فليبكِ على نفسه من الآن، فعليه أن يتشبث برحمة الله، ثم بواحدة من هذه العشر، ومن حسبها وجمعها جميعاً فهو الفائز بإذن الله تبارك وتعالى، ولا يهلك على الله إلا من شرد عن الله شرود الجمل الشارد على أهله، وقد أتى بذلك حديث صححه بعض أهل العلم، وصاحب الجامع وغيره.