[هجاء طرفة لعمرو بن هند]
أما طرفة بن العبد، وحسبك به! العبقري الثائر المتمرد، الذي قُتل وعمره ست وعشرون سنة، والعبقرية لا تعرف عُمْراً ست وعشرون سنة يدخل فيها على الملوك ويسجل أروع القصائد، حتى إن بعضهم يجعل معلقته بعد معلقة امرئ القيس مباشرة، وبعضهم ألَّف فيها تصنيفاً بديعاً، وهي من أخطر وأبلغ وأمهر المعلقات على الإطلاق، ومع ذلك قُتِل وعمره ست وعشرون سنة وانظر إلى جيلنا الحاضر، يبلغ أحدهم ثلاثين سنة ولا يستطيع أن يشتري أغراضه من السوق وهذا هو صاحب الدالِية التي يقول فيها:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهندِ
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشددِ
إلى أن يقول:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تسطِيع دفع مَنِيَّتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي
يقول: ما دمت سأموت فاسقوني الخمر، وأعطوني الشهوات، واجعلوا البيع بالجملة؛ لأنه ما عنده آخرة، وقد كان قبل الرسول صلى الله عليه وسلم في عهد الجاهلية، وليس عند الجاهليين نور، بل كانوا كالبهائم؛ لأنه قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كنا بلا عقول ولا طهارة، ولا زكاة، ولا تفكير، ولا أدب، حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:٢].
وقد ذكرت بعضُ أبياته عند الخليفة الراشد الزاهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه في مجلس الأدب، فقيل له: يقول طرفة:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدكَ لم أحْفَلْ متى قام عُوَّدي
يقسم أنه لولا ثلاث لم يهتم بالحياة، وإنما يريد أن يموت، ويريد أن يقوم عليه النُّعاة.
قال عمر: وما هي؟
قيل له، يقول:
فمنهن سبق العاذلات بشربة كُميْتٍ متى ما تعل بالماء تزبدِ
أي: كأس الخمر.
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء الممددِ
أي: امرأة.
وكري إذا نادى المضاف مجنباً كليث الغضا نبهتَه المتورِّدِ
فدمعت عينا عمر، وقال: والله لولا ثلاث لم أحْفَل متى قام عُوَّدي، وهو منطق أهل الإسلام والإيمان والرشد: مزاحمة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنْتَقى أطايب الثمر، وأن أصوم يوماً حاراً بعيداً طرفاه، وأن أمرِّغ وجهي لربي في التراب ساجداً.
فجزاه الله خيراً، فإن هذا منطق أهل الاصطلاح الخيِّر، لا منطق الجاهلية العفن.
أما طرفة فما أصابه بأس بهذه القصيدة المعلقة التي تركها لنا، وهي من أجود القصائد.
أتى إلى عمرو بن هند، وهو الذي يخاف منه الطير في الدهناء، وأتى يتعرض له ويستهزئ بمجلسه ويقول:
فليت لنا مكان الملك عمرو رغوثاً حول قبتنا تخورُ
يقول: بودي لو أن بدل عمرو بن هند بقرة! أهذا منطق؟!
من الزمرات أسبل قادماها وضرتها مركنة دَرورُ
أي: تكون حلوباً، يقول: والله لا استفدنا منه ولا أعطانا شيئاً.
يشاركنا لنا رخلان فيها وتعلوها الكباش فما تنور
لعمرك إن قابوس بن هند ليخلط ملكه نوك كثيرُ
فطارت القصيدة بحفظ الله ورعايته إلى عمرو بن هند، وهو الذي قتل ملوكاً، ولا يُمْزَح معه، فقال: عليَّ به، فأتى، وأراد عمرو أن يظهر في موطن الصيانة والرزانة؛ لئلا يقول الناس: إنه قتل طرفة الشاب العبقري المارد، الذكي الألمعي، إذ كيف له أن يقتله؟! فدعاه وحياه ورحب به وغدَّاه وألبسه، وقال: لك عندي رسالة فاذهب بها إلى ملك البحرين، وأعطاه الرسالة، وأعطى المتلمس رسالة أخرى، ووضعهما في ظرفين وأعطاهما، فأما المتلمس فقد شك -فربما كان الذيب في القريب، كما قال بعض السلف، أو الصميل في الكيس، كما قال بعضهم- ففتح الرسالة وإذا فيها: إذا أتاك المتلمس فقطِّع أطرافه الأربعة ثم اضرب عنقه، ففر وقال لـ طرفة: اذهب، يكفيك هذا الشعر، خذ الرسالة، قال: لا، بل حسدتني -وقد كان قريباً له- والله إن لي جائزة، وتريد أن تأخذها أنت عليَّ فذهب بها إلى الملك، فقرأها، فقطَّع أطرافه الأربعة ثم ضرب عنقه، فذهب في خبر كان من أجل أربعة أبيات أو أكثر وهي من أسوأ أبياته على الإطلاق، وهي ركيكة، لكن هذه عاقبة اللسان الذي لا يحفظه العبد، وهذا مع البشر فكيف مع الواحد الديان جلَّ في علاه.