[وقفات مع السلف في حسن أخلاقهم]
ورأيت في ترجمة عيسى عليه السلام في بعض الكتب أنه كلمه رجل فأبذى عليه ذاك الرجل -سبه وشتمه- فقال: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:٥٥].
فقال الحواريون لعيسى: يا نبي الله! كيف يتكلم عليك وترد هذا الرد، قال: كل ينفق مما عنده، ثم يقول: إن مثلي ومثلكم يا أيها الحواريون، كالنخلة إذا رجمت بالحجارة أنزلت على من رجمها رطباً.
وقد تفنن الشعراء في ذلك والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أرسى هذا المبدأ في كتابه حيث قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:٦٣] قال أبو عبيد القاسم والأصمعي: سلاماً في القرآن بمعنى سلامة لكن أتت بألف الإطلاق بدل الهاء؛ أي أنهم إذا خاطبهم الجاهلون، وتكلموا عليهم قالوا: سلاماً، أي: أبشروا بالسلامة، لا يأتيكم منا أذى، ولذلك إذا أجبت الشرير بالشر زاد عليك، فبدل أن تكون لطافة وكلاماً سهلاً يردون عليك بالمشاعيل نسأل الله السلامة من المشاعيل!
والمقصود أن حسن الجانب واللين يطفئ ثائرة الضغينة، ويقولون: ما رأينا أقتل للشرير من السكوت.
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
جاء رجل إلى أبي بكر فقال: والله لأسبنك سباً يدخل معك في قبرك، قال أبو بكر: [[والله لا يدخل معي وإنما يدخل معك أنت في قبرك]].
وجاء رجل إلى عامر الشعبي -وسوف يمر معنا في أذكياء الناس في الأسئلة- أتاه وهو يفتي الناس -وأورد ذلك الذهبي وغيره- فقال: يا أبا فلان يقصد الشعبي وهو عالم من علماء المسلمين: ما اسم زوجة إبليس؟ انظروا إلى هذا السؤال الخطير، فرفع الشعبي رأسه، وكان لا يتلعثم وكانت فيه دعابة، قال: لم أحضر الزواج كان عندي شغل يوم وليمتهم، لأنه ما دعي، وما وجهت له دعوة ولو وجهت له دعوة، فهو مشغول.
الشاهد أن الشعبي رحمه الله وقف رجل فسبه أمام الناس، فقال الشعبي: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كذاباً فغفر الله لك.
هل وراء هذا السؤال شيء أعجب من هذا الجواب؟ ماذا يقول بعدها؟ سوف ينعصر ذاك خجلاً ويموت كمداً، ثم يأخذ حذاءه ويقول: السلام عليكم.
ولذلك أفضل ما يمكن أن تقتل به السفيه أن تسكت مهما تكلم ومهما قال، أن تسكت وتقول سلاماً، وتبتسم.
ويذكر في ترجمة عمر بن عبد العزيز -وذكرها صاحب البداية والنهاية - أنه ذهب ليقوم الليل في مسجد بني أمية، وكان خليفة فذهب، فأخذ حذاءه بيسراه ودخل المسجد، وإذا برجل نائم في المسجد فوطئه برجله في الظلام، فقام النائم فزعاً فقال: من هذا الحمار الذي وطئني؟ وهذا موجود في ترجمته، قال عمر بن عبد العزيز: أنا عمر بن عبد العزيز، ولست بحمار والحمد لله، فذهب ذاك الرجل يولول ويتأسف ويخبر الناس، فقالوا: من الخلفاء الراشدين رضي الله عنه وأرضاه.
فالشاهد من هذا هو أهمية الرد الجميل وكذلك اختلاف الناس في الفهم، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جعل أفهام الناس بالتفاوت حتى يقولون: بين الناس تفاوت كما بين السماء والأرض، ولا تظنوا أن فضل الناس عند الله على حسب الذكاء، وأن الذي يحفظ جدول الضرب عن ظهر قلب هو أفضل من الذين لم يحفظوا جدول الضرب، لا فإن هذه وسائل دنيوية قد يستخدمها الإنسان في طاعة الله، وقد يستخدمها في المعصية، لكن الميزة عند الله هي التقوى.
ولذلك الذين اكتشفوا القنبلة الذرية هم من أذكياء الناس بلا شك ولو كانوا كفاراً، ولا تقولوا: الكفار ليسوا بأذكياء بل منهم الأذكياء، لكن الواحد منهم أنجس من الكلب والخنزير، فذكاؤهم لا ينفعهم عند الله؛ لأنه لم يرفعهم عند الله ولم يستخدموه فيما يقربهم منه سبحانه وتعالى.