[نماذج للبكائين من السلف الصالح]
والبكاء من خشية الله ورد عن قوم صالحين كثيرين، وأنا لا أقول: إن الضحك حرام، فإن بعض الناس من جبلتهم الضحك، ولو كان من أتقى الناس، لكن من جبلته وفطرته وتكوينه الشخصي أنه كثير الضحك، فـ ابن سيرين هذا العالم العابد الزاهد التابعي المحدث الشهير، وهو أكبر تلميذ لـ أنس بن مالك، وراوية الصحابة الكبير، ومعبر الرؤيا، قد كان من أعبد الناس، وكان يضحك حتى يتمايل، ولكن إذا أتى الليل يبكي حتى يسمع جيرانه بكاءَه.
يقول أحد التابعين: هل أريكم الضحاك البكاء؟ قالوا: نعم.
قال: تعالوا، فأطلعهم على ابن سيرين في حلقته، قال: هذا ضحاك النهار بكاء الليل.
وقالوا: كان صاحب دعابة إذا جلس في المجلس، وكان يروح على الغادي وعلى الرائح بها، لكن إذا أتى الليل بدأ يبكي من بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر.
قلت لليل هل بجوفك سرٌ عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألقَ في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار
ومنهم: عامر الشعبي، فقد كان من أفكه الناس، وكان مزاحاً، خفيف الظل، لكن كان من أتقى عباد الله لله.
فلا نظن أن الإنسان إذا كان كثير الدعابة وكثير الضحك والتبسم؛ أنه لا يتقي الله، لا.
بل قد تجد أفجر الخلق لا يتبسم ولا يضحك، ولكنه فاجر، فتجده دائماًً قابضاً وجهه، كأنما عقدت عليه لعنة الأولين والآخرين وهو كافر, فليست تقوى الله في عدم الضحك.
ووجد من الصالحين من كان كثير البكاء، فقد روى وكيع في كتاب الزهد بسند جيد، قال: قرأ ابن عمر قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦] فبكى حتى أغمي عليه.
وقال مجاهد: رأيت أجفان ابن عباس كالشراكين الباليين من كثرة البكاء.
قرأ ابن عباس رضي الله عنهما ليلة كاملة: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:١٢٣] فبكى حتى أصبح.
وقد كان أكثر الناس بكاءً بعد أبي بكر عمر رضي الله عنهما، والنماذج تطول، ولكننا نذكر نماذج على حسب الطاقة.
قال البخاري: وقالت فاطمة عليها السلام وهنا سلم عليها، ونحن نسلم ونصلي عليها وعلى أبيها؛ الزهراء البتول الطاهرة الصادقة الأمينة سيدة نساء الخلق، فهذه بنت محمد صلى الله عليه وسلم، يقول محمد إقبال شاعر الباكستان، يتكلم عن فاطمة رضي الله عنها وأرضاها:
هي بنت من هي أم من هي زوج من من ذا يباري في الأنام علاها
بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وزوجة علي بن أبي طالب، وأم الحسن والحسين.
أما أبوها فهو أكرم مرسل جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي سيف لا تسل عنه سوى سيفاً غدا بيمينه تياها
أكبر المفاخر لـ فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، ونحن لا نغلو فيها وفي أبنائها غلو الجهلة الذين لا يعلمون, ولا نجفو جفاء الذين لا يعقلون، فكلا الطرفين ضلال، وإنما نعتدل فنحبها في الله، ونكثر من محبتها لمحبة أبيها عليه أفضل الصلاة والسلام.
قال: وقالت فاطمة عليها السلام -لأنها من بيت النبوة- {أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت} وهذا الإسرار كان وقته في ساعة الوداع، يوم ودع النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا، ورحل عن المعمورة، يوم خير بين البقاء والرحيل, فاختار الرحيل، وكانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تأتيه، فيقول: {بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى} فأتى بأحب الناس إلى قلبه، وأقرب الناس إلى روحه، بـ فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فكلمها صلى الله عليه وسلم ليودعها، فقال: {أنت أول الناس لحوقاً بي -وأخبرها أنه سوف يموت من وقته- فبكت، فقال: ادني مني، فدنت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟} فضحكت، وهذه أعظم بشرى، فنساء العالمين جميعاً سيدتهن فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وصلى الله على أبيها وسلم.