ومن نماذج السلف الصالح التي عاشوها في الحب والتجرد من الدنيا، ما ذكر أهل السير في ترجمة محمد بن واسع الأسدي، وهو من التابعين الكبار الذي جمعوا بين العلم والزهد والعبادة، وقد خرج مع قتيبة بن مسلم في الشمال تجاه كابل، التي سلبت من المسلمين لما ماتت في قلوبهم لا إله إلا الله، واستولى عليها الملحد المستعمر، لما ماتت جذوة القرآن في القلوب، ووصلوا إلى تلك المشارف، ولما صف قتيبة بن مسلم الجيش وقابله الكفار قال قبل المعركة: التمسوا لي محمد بن واسع العابد الزاهد، فأتوا وإذا محمد بن واسع قد توضأ واتكأ على رمحه، ورفع سبابته إلى السماء يتمتم ويدعو الحي القيوم بالنصر:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[آل عمران:١٢٦] فعادوا وأخبروا قتيبة بن مسلم فتهلل وجهه وقال: والله الذي لا إله إلا هو! لأصبع محمد بن واسع خيرٌ عندي من مائة ألف سيفٍ شهير ومائة ألف بطل طرير، وبدأت المعركة ونصر الله المسلمين، وانتهت المعركة وقدمت الغنائم من الذهب والفضة إلى قتيبة بن مسلم، وكان يرى الكُتُل من الذهب والفضة والجواهر والكنوز تقدم إليه، فكان يقول للقواد: أترون أن أحداً من الناس يعطى هذا فيرده؟ قالوا: لا.
ما نرى أحداً من الناس يعطى شيئاً من الذهب والفضة ثم يرده، قال: والله لأرينكم رجالاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة عندهم أقل أو أرخص من التراب، فقال: عليَّ بـ محمد بن واسع، فذهبوا إليه وهو يصلي في خيمته، فقالوا: يا محمد بن واسع! إن قتيبه يدعوك، قال: مالي ولـ قتيبة، ما خرجت إلا لوجه الله عز وجل، فليتركني قتيبة أحمد الله عز وجل على ما أعطى من النصر، قالوا: أمرك الأمير؛ فأتى إلى قتيبة قال: خذ هذا يا محمد بن واسع! كتلة من الذهب تقدر بآلاف الدراهم والدنانير، وظن قتيبة أنه لا يأخذها فحملها معه، فتغير وجه قتيبة وقال في نفسه: اللهم لا تخيب ظني في محمد بن واسع، وأرسل بعض الجنود يبحثون وراءه أين يضع هذا المال، ولما خرج من الخيمة عرض له مسكين يطلب الناس في الجيش، وسأل محمد بن واسع فأعطاه كل الذهب، وذهب إلى خيمته.
فاسترد قتيبة هذا المال بشيءٍ من الدراهم من المسكين وقال لوزرائه وقواده: أما أريتكم أن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يرون الذهب والفضة كالتراب!
فأين ذلك الجيل؟! أين تربية المساجد التي تركت في الأمة تربيةً بينةً ظاهرةً شاهرة؟
أين هذا الجيل الفريد الذي تربى على مائدة القرآن، إننا نشكو حالنا إلى الله عز وجل يوم سكنت محبة الدنيا في قلوبنا، فأصبحت شغلنا الشاغل، فقد أخذت أوقاتنا ومجالسنا وسمرنا وأنديتنا ومسائلنا وبحوثنا حتى كأننا خلقنا للدنيا، والله عز وجل خلقنا لهدفٍ شريف، فخلقنا وبعثنا أمة لتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.